مابالكم يا طلبة العلم ؟؟
توالت علي الفواجع في الأدب هذه الأيام القريبة بصورة غير مسبوقة .. ولولا معرفتي بحال الزمان الذي نعيشه فلربما أصبت بداء عضال .. فما لقيته كان من مقربين إلي وأي مقربين !
وكان ممن نالهم شيء من سوء الأدب هذا بعض طلبة العلم المقربين إلي .. ممن جعلت لهم منزلة خاصة ..حتى إني لأرى لبعضهم الخلل فيما ينشره فأستحيي أن أعقب عليه لئلا أخجله وأقول لعلني أجد فرصة لحديث على انفراد فألفت نظره لهذا الخلل عنده حرصا على شعوره ومراعاة لمنزلته .
وضياع الأدب ليس وليد عصرنا وإنما هو منذ زمن بعيد ولكنه عم وطم وأصبح في خواص طلاب العلم ولا حول ولا قوة إلا بالله
قال ابن المبارك -رحمه الله-: “طلبت العلم فأصبت منه شيئاً، وطلبت الأدب فإذا أهله قد بادوا”
فسبحان الله ! تجد طالبا يقول لشيخه : أنت متناقض . وآخر يقول له : أنت متعنت وثالث يقول له : كلامك تام النكارة .. ورابع وخامس وهلم جرا ..
ماهذا الأدب العجيب ؟ يا ولدنا ..لو رأيت نفسك عالما نحريرا رأسك برأس من تخاطب لكان في ذلك سوء في الأدب إذ تواجهه بذلك وخاصة لو على الملأ .. فكيف وأنت دون طلابه الذين تخرجوا على يديه من عشرات السنين وصاروا أساتذة الجامعات ومراجع لطلاب العلم ؟
نحن لأجل ذلك عندما أسسنا أكاديمية طالب العلم جعلنا أول مادة تدرس فيها هي آداب طالب العلم .. لأن من حرم الأدب حرم بركة العلم ..
وكنت في جلسة مع بعض أهل العلم والفضل وطرحت هذه المعضلة عليهم حيث يعتزمون إنشاء معهد لإعداد العلماء الربانيين وكلهم أقر بأنه لم يحصل له أن درس هذه المادة طيلة طلبه للعلم أو سمع عن تدريسها في أي معهد دراسي ..
ومن أوائل آداب طالب العلم ..أدب الطالب مع شيخه .. وأدب السؤال مطلقا
فعَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: “لِلْعِلْمِ خَزَائِنُ تَفْتَحُهَا الْمَسْأَلَةُ”
وعَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُمَا قَالَا: “حُسْنُ الْمَسْأَلَةِ نِصْفُ الْعِلْمِ،
وقد روي في حديث مرفوع ولم يصح .
وعَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، قَالَ: “التَّوَدُّدُ إِلَى النَّاسِ نِصْفُ الْعَقْلِ، وَحُسْنُ الْمَسْأَلَةِ نِصْفُ الْفِقْهِ”
وجَاءَ ابْنُ عَجْلَانَ إِلَى زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ فَخَلَطَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ زَيْدٌ: “اذْهَبْ فَتَعَلَّمْ كَيْفَ تَسْأَلُ، ثُمَّ تَعَالَ فَسَلْ”
وفي حديث لايصح ولكن معناه صحيح عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مرفوعا : “إِذَا جَلَسَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْعَالِمِ، فَلْيَسْأَلْهُ تَفَقُّهًا وَلَا يَسْأَلُهُ تَعَنُّتًا، فَإِنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَمْقَتُهُ”
وهذا جزء يسير من حق العالم وقد صح في الحديث عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ” ليس من أمتي من لم يجل كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه”.
قالَ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَه اللهُ تعالى : ( وقيلَ : إذا جَلَسْتَ إلى عالِمٍ ؛ فسَلْ تَفَقُّهًا لا تَعَنُّتًا ) اهـ
ويقول الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله : وإيَّاكَ إذا حَصَلَ الجوابُ أن تَقولَ : لكنَّ الشيخَ فلانًا قالَ لي كذا ، أو قالَ كذا ، فإنَّ هذا وَهَنٌ في الأَدَبِ ، وضَرْبٌ لأَهْلِ العِلْمِ بعضِهم ببعضٍ ، فاحْذَرْ هذا . وإن كنتَ لا بُدَّ فاعلاً ، فكنْ واضحًا في السؤالِ ، وقل ما رأيُك في الفَتْوَى بكذا ، ولا تُسَمِّ أَحَدًا .
ويقول : وإذا بدا لك خطأ من الشيخ، أو وهم فلا يسقطه ذلك من عينك، فإنه سبب لحرمانك من علمه، ومن ذا الذي ينجو من الخطأ سالماً.”.
وقال ابن عثيمين رحمه الله :
أن لا يكون سؤالك على جهة إبطال قول الشيخ ، قد تستفهم لكن لا تحاول الإبطال ، إبطال قول الشيخ ، فإنّ هذا سوء أدب ، وقد يكون سوء فهم منك ، وبالتالي لا يكون كلامك صحيحا ، قد تعترض وتقول : كيف الجمع بين كذا وكذا ، هذا لا بأس فيه ، لكن أن تقول : كلامك فيه ما فيه لأنّ الله يقول : كذا ، هذا سوء أدب ، وليس من حسن السؤال في شيء . ا.هـ
انتبه لنفسك ألا تتعالى وأنت تسأل بل تذلل وتملق لتستفيد .. ولاتظن أن ذلك يتم بالادعاء وإنما طريقتك تدل عليه فمن يصحح لشيخه ويستدرك عليه فهو متعال حتى وإن بدأ كلامه بقوله : لست أنا من يرد عليك أو يصحح لك .. فهذا يشبه قول القائل : مع احترامي لك أنت جاهل !!
روي عن عليٍّ رضي الله عنه أنه قال: “لَيْسَ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُؤْمِنِ التَّمَلُّقُ، وَلَا الْحَسَدُ، إِلَّا فِي طَلَبِ الْعِلْمِ”
قال بعضهم :
فخذ بمجامع الأدب مع شيخك في جلوسك معه، والتحدث إليه، وحسن السؤال، والاستماع، وحسن الأدب في تصفح الكتاب أمامه، وترك التطاول والمماراة أمامه، وعدم التقدم عليه بكلام أو مسير أو إكثار الكلام عنده، أو مداخلته في حديثه ودرسه بكلام منك، أو الإلحاح عليه في جواب، متجنباً الإكثار من السؤال لا سيما مع شهود الملأ ؛ فإن هذا يوجب لك الغرور وله الملل، ولا تناديه باسمه مجرداً، أو مع لقبه بل قل: ” يا شيخي، أو يا شيخنا “.
وقد كان بعض السلف: إذا ذهب إلى معلمه تصدق بشيء وقال: “اللهم استر عيب معلمي عني، ولا تذهب بركة علمه مني”.
قال الشافعي: “كنت أصفح الورق بين يدي مالك -رحمه الله- صفحا رفيقاً، هيبة له لئلا يسمع وقعها”.
وقال أحمد بن حنبل -رحمه الله- لخلف الأحمر: “لا أقعد إلا بين يديك، أُمِرْنا أن نتواضع لمن نتعلم منه”.
ومشهور موقف ابن عباس وهو من هو مع زيد بن ثابت رضي الله عنهم أجمعين حيث أخذ ابن عباس بركاب زيد وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا .
وقال الربيع: “والله ما اجترأت أن أشرب الماء والشافعي ينظر إليّ هيبة له”.
وفي وصية جامعة تروى عن علي -رضي الله عنه- قال:
“من حق العالم عليك: أن تسلِّم على القوم عامة وتخصه بالتحية، وأن تجلس أمامه، ولا تشير عنده بيدك، ولا تغتابن عنده أحد، ولا تسارَّ في مجلسه، ولا تأخذ بثوبه، ولا تلح عليه إذا كسل، ولا تشبع من طول صحبته، فإنما هو كالنخلة تنتظر متى يسقط عليك منها شيء”.
وقال الغزالي: لا ينال العلم إلا بالتواضع وإلقاء السمع .
وذكر بعضهم من جملة الآداب التي يلزم طالب العلم اتباعها مع العالم :
ألا يرفع صوته معه رفعاً بليغاً من غير حاجة، ولا يضحك ولا يكثر الكلام بلا حاجة، ولا يعبث بيده ولا بغيرها، ولا يلتفت بلا حاجة، بل يقبل على المعلم مصغياً إليه.
وإذا سمع المعلم يقول مسألة أو يحكي حكاية وهو يحفظها فعليه أن يصغي لها إصغاء من لم يحفظها.
وإياك أن تسأل عن أمر تعلمه، بل اسأل عن أمر لا تعلمه تريد الجواب الشافي من العالم؛ ولذلك قال -سبحانه-: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}(النحل: 43)، وليس من أدب السؤال أن تسأل العالم عن شيء تعلمه ثم تجادله فيه، وتقول مثلا: قال العالم الفلاني كذا، وهناك دليل كذا؛ لأن هذا المقام مقام سؤال وجواب وليس مقام مناظرة ومجادلة، أما إذا أراد طالب العلم البحث مع العالم فإنه يبين له ذلك أولا؛ فإن أذن له بالبحث وإلا لا يبدأ به.
وعلى السائل أن يختار أطايب الكلام عند حديثه مع العالم، فيقول مثلا: أحسن الله إليك شيخنا، أو عندي سؤال بارك الله فيك، أو نحو ذلك من الكلام؛ وذلك لأن العالم يحمل ميراث النبوة وهو العلم، فاحترام العالم من احترام العلم.
وهذا الكلام الطيب والتواضع للعالم عز للسائل، وخضوعه له فخر، وتواضعه له رفعة، ويقال: إن الشافعي -رحمه الله- عوتب على تواضعه للعلماء، فقال:
أهين لهم نفسي فهم يكرمونها ولن تكرم النفس التي لا تهينها
وعليه أن يصبر على جفوة تصدر من شيخه أو سوء خلق، ولا يصده ذلك عن ملازمته وسؤاله، ويتأول أفعاله التي يظهر أن الصواب خلافها على أحسن تأويل؛ فإن ذلك أبقى لمودة شيخه، وأحفظ لقلبه، وأنفع للطالب في دنياه وآخرته.
جاء عن بعض السلف: من لم يصبر على ذل التعليم بقي عمره في عماية الجهالة، ومن صبر عليه آل أمره إلى عز الدنيا والآخرة.
اصبر لدائك إن جفوت طبيبه واصبر لجهلك إن جفوت معلمًا
وروي عن ابن عباس :
إن المعلم والطبيب كليهما لا ينصحان إذا هما لم يكرما
وقال : ذللت طالبًا فعززت مطلوبًا ..
نكتفي بهذا .. فليس الأمر بكثرة الكلام وإنما بالعمل بما نقول ونعلم والحمد لله رب العالمين .