الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
أما بعد
فقد اطلعت على ماكتبه الأستاذ جميل خياط حول صيام الست من شوال ولا يزال لا ينقضي عجبي من خوض من لا يحسن علما في جزئياته ونصيحتي للأخ ولكل مسلم حريص على دينه أن يتقي الله فيما يكتب وإذا أراد بحث مسألة ووجد نفسه أهلا لها فعليه أن يستعين بذوي الخبرة وأهل الاختصاص ثم يحاول أن يحيط بالمسألة من جوانبها وفي هذه العجالة نوضح للأخ الخلل العظيم الذي وقع فيه وقد ظلم في هذا الخلل نفسه قبل كل شيء فقد أخطأ في حق النبي r ثم في حق أصحابه ثم في حق التابعين ثم في حق جهابذة علماء الأمة ثم في حق العلماء الكبار والدعاة والخطباء ثم خرق الإجماع وطعن في صحيح الإمام مسلم في حديث لم يسبقه في تضعيفه أحد من جهابذة النقاد فنسأل الله له الرجوع إلى الحق والتجاوز عما وقع فيه ولبيان ذلك أقول :
أولا : زعم الأخ أن علة الحديث مردها سعد بن سعيد وذكر كلام من تكلم في حفظه من أهل العلم .
ثم زعم زعما آخر وهو أن مداره على عمر بن ثابت الأنصاري ولم يروه عن أبي أيوب غيره فهو شاذ لا يحتج به .
والجواب عن ذلك أن هذا كله كذب فليس علة هذا الحديث سعد بن سعيد ولا هو حديث فرد فضلا عن أن يكون شاذا وهذا الحديث لا يشك في صحته إلا جاهل وبيانه كالتالي :
حديث صيام الست من شوال جاء من رواية جمع من الصحابة وعلى رأسهم :
أبو أيوب الأنصاري : رواه عنه عمر بن ثابت بن الحارث الخزرجي أنه حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر .
وهذا الحديث أخرجه مسلم في صحيحه وأحمد والطيالسي وعبد الرزاق وعبد بن حميد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والبيهقي وابن عبد البر وغيرهم
وقال الترمذي : حديث أبي أيوب حديث حسن صحيح .
وقال عبد الرزاق الصنعاني : يقول لكل يوم عشرة أيام وبه نأخذ .
ورواه النسائي في الكبرى من طريق يحيى بن سعيد عن عمر بن ثابت قال غزونا مع أبي أيوب فصام رمضان وصمنا فلما أفطرنا قام في الناس فقال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من صام رمضان وصام ستة أيام من شوال كان كصيام الدهر .
وانفراد عمر بن ثابت به عن أبي أيوب لا يضر لأنه ثقة إمام . قال ابن عبد البر : انفرد بهذا الحديث عمر بن ثابت الأنصاري وهو من ثقات أهل المدينة .ا.هـ
وما أكثر الأحاديث التي كذلك ومنها حديث إنما الأعمال بالنيات المشهور .
ويأتي من تابعه في روايات بقية الصحابة ورد ابن حبان القول بالتفرد فيه .
وقد جاء من طرق عن عمر بن ثابت فلم ينفرد به سعد بن سعيد .
ومن باب نافلة القول نقول إن سعد بن سعيد ضعفه البعض من قبل حفظه وخالفهم غيرهم فقال ابن سعد : ثقة قليل الحديث . وإخراج مسلم له في الصحيح من أعظم التوثيق له . وعلى كل فكون الراوي يخطئ لا يعني رد كل حديثه بل يقبل منه ما ينتقيه الحفاظ مما يتبين لهم عدم الخطأ فيه وهذا هو ما فعله مسلم رحمه الله .
فكيف إذا لم ينفرد به ؟ وكيف إذا تعددت مخارج الحديث بل جزم البعض بتواتره كما يأتي ؟
قال ابن السبكي : وقد اعتنى شيخنا أبو محمد الدمياطي بجمع طرقه فأسنده عن بضعة وعشرين رجلا رووه عن سعد بن سعيد وأكثرهم حفاظ ثقات منهم السفيانان وتابع سعدا على روايته أخوه يحيى وعبد ربه وصفوان بن سليم وغيرهم ورواه أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم ثوبان وأبو هريرة وجابر وابن عباس والبراء بن عازب وعائشة . ا.هـ
عن ثوبان : رواه عنه أبو أسماء الرحبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال صيام شهر رمضان بعشرة أشهر وصيام ستة أيام بشهرين فذلك صيام سنة . يعني رمضان وستة أيام بعده . وفي لفظ : من صام ستة أيام بعد الفطر كان تمام السنة من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها
وفي لفظ : يقول جعل الله الحسنة بعشر فشهر بعشرة أشهر وستة أيام بعد الفطر تمام السنة
أخرجه النسائي في الكبرى وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والبزار والبيهقي .
وقال ابن حبان قبل روايته : ذكر الخبر المدحض قول من زعم أن هذا الخبر تفرد به عمر بن ثابت عن أبي أيوب .
عن شداد بن اوس : رواه عنه أبو الاشعث الصنعاني عن النبي صلى الله عليه وسلم من صام رمضان واتبعه بست من شوال .
رواه ابن أبي حاتم معلقا وقال : سمعت ابي يقول : الناس يروونه عن يحي بن الحارث عن أبى أسماء عن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم قلت لأبي : أيهما الصحيح ؟ قال جميعا صحيحين .
عن جابر رضي الله عنه : رواه عنه عمرو بن جابر الحضرمي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من صام رمضان وستا من شوال فكأنما صام السنة كلها
أخرجه أحمد والبيهقي .
عن ابن عباس وجابر معه : رواه عنهما مجاهد قالا : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال من صام رمضان فأتبعه ستا من شوال صام السنة كلها .
أخرجه الطبراني في الأوسط
عن أبي هريرة : رواه عنه جماعة منهم ابنه المحرر وعبد الرحمن وأبو صالح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من صام رمضان وأتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر
رواه ابن عدي والبزار قال الهيثمي : وأحد طرقه عنده صحيح قال : ورواه الطبراني في الأوسط بإسناد فيه نظر قال من صام ستة أيام بعد الفطر متتابعة فكأنما صام السنة كلها
ورواه أيضا ابن عساكر وغيره وفي بعض طرقه أن أبا هريرة صنع لهم طعاما يوم الفطر وهم بدمشق ثم دعا بهم ثم حدثهم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من صام رمضان وأتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر
عن ابن عمر :
رواه عنه نافع قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من صام رمضان وأتبعه ستا من شوال خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه .
رواه الطبراني في الأوسط
عن غنام : رواه عنه ابنه عبد الرحمن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من صام ستا بعد يوم الفطر فكأنما صام الدهر .
رواه الطبراني في الكبير وابن منده وأبو نعيم في الصحابة
عن البراء بن عازب : رواه عنه عدى بن ثابت عن النبي أنه قال من صام ستة أيام بعد الفطر فكأنما صام الدهر
أخرجه الدارقطني في العلل
عن أنس : رواه عنه حميد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من صام رمضان وأتبعه بست من شوال كان كمن صام الدهر .
أخرجه ابن حبان في المجروحين
عن طاوس مرسلا : رواه ابنه عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من صام رمضان وأتبعه بستة أيام من شوال كتب له صيام سنة .
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه
فهل بعد هذه الطرق المتكاثرة يقبل الطعن في هذا الحديث ؟
ولأجل ذلك ذهب بعض الحفاظ كالإمام السيوطي رحمه الله تعالى إلى أنه حديث متواتر فذكره ضمن كتابه الأزهار المتناثرة في الأحاديث المتواترة وذكر أنه رواه ثمانية أنفس من الصحابة .
قلت : بل اثنا عشر بزيادة شداد بن أوس وأنس وغنام رضي الله عنهم كما ذكرنا وعائشة حسب ما أفاده الدمياطي . هذا خلا رواية طاووس المرسلة .
ثم يكفي أن مسلما أخرجه في صحيحه وقد أجمعت على صحة ما أخرجه الأمة :
قال أبو عمرو ابن الصلاح : جميع ما حكم مسلم بصحته من هذا الكتاب فهو مقطوع بصحته والعلم النظري حاصل بصحته في نفس الأمر وهكذا ما حكم البخاري بصحته في كتابه وذلك لأن الأمة تلقت ذلك بالقبول سوى من لا يعتد بخلافه ووفاقه في الإجماع .
وقال إمام الحرمين : لو حلف إنسان بطلاق امرأته أن ما في كتابي البخاري ومسلم مما حكما بصحته من قول النبي صلى الله عليه وسلم لما ألزمته الطلاق ولا حنثته لإجماع علماء المسلمين .
ثانيا : محاولة إيهام الأخ خياط أن الأخذ بهذا الحديث تفرد به الإمام أحمد في حين خالفه غيره وادعاء أنه لم يصمها أحد من الصحابة والتابعين فيه تدليس واضح وكذب فاضح :
فأما الصحابة فقد تقدم فعلهم ونصحهم للناس بها حتى في الجهاد
وأما من قال بذلك من التابعين :
فقال عبد الرزاق سألت معمرا عن صيام الست التي بعد يوم الفطر وقالوا له تصام بعد الفطر بيوم فقال معاذ الله إنما هي أيام عيد وأكل وشرب ولكن تصام ثلاثة أيام قبل أيام الغر أو ثلاثة أيام الغر أو بعدها وأيام الغر ثلاثة عشر وأربعة عشر وخمسة عشر .
وسئل عبد الرزاق عمن يصوم يوم الثاني فكره ذلك وأباه إباء شديدا .
وروي استحباب ذلك عن كعب الأحبار والشعبي وميمون بن مهران وغيرهم وهم من سادات التابعين .
وأما من قال باستحباب ذلك ممن بعدهم فلا يحصون كثرة بل هو قول جمهور الأمة ومنهم الإمام ابن المبارك والإمام الشافعي والإمام داود الأصبهاني .
بل روي عن مالك نفسه أنه كان يصومها في خاصة نفسه كما يأتي عن مطرف .
قال الترمذي : وقد استحب قوم صيام ستة أيام من شوال بهذا الحديث قال ابن المبارك هو حسن هو مثل صيام ثلاثة أيام من كل شهر واختار بن المبارك أن تكون ستة أيام في أول الشهر وقد روي عن ابن المبارك انه قال إن صام ستة أيام من شوال متفرقا فهو جائز.
ومن حكيت عنه الكراهة كالإمام أبي حنيفة ومالك فلم يصلهما الحديث أصلا حتى يقال لم يأخذا به كما زعم الأخ وقد اعتذر عنهما أصحابهما وخالفوهما :
أما أبو حنيفة فقال في تحفة الأحوذي : قول من قال بكراهة صوم هذه الستة باطل مخالف لأحاديث الباب ولذلك قال عامة المشايخ الحنفية بأنه لا بأس به . قال ابن الهمام : صوم ست من شوال عن أبي حنيفة وأبي يوسف كراهته وعامة المشايخ لم يروا به بأسا انتهى
وأما مالك فقال ابن عبد البر الإمام المالكي عالم المذهب : لم يبلغ مالكا حديث أبي أيوب على أنه حديث مدني والإحاطة بعلم الخاصة لا سبيل إليه والذي كرهه له مالك أمر قد بينه وأوضحه وذلك خشية أن يضاف إلى فرض رمضان وأن يستبين ذلك إلى العامة وكان – رحمه الله – متحفظا كثير الاحتياط للدين . وأما صيام الستة الأيام من شوال على طلب الفضل وعلى التأويل الذي جاء به ثوبان – رضي الله عنه – فإن مالكا لا يكره ذلك إن شاء الله لأن الصوم جنة وفضله معلوم لمن رد طعامه وشرابه وشهوته لله تعالى وهو عمل بر وخير وقد قال الله عز وجل وافعلوا الخير ومالك لا يجهل شيئا من هذا ولم يكره من ذلك إلا ما خافه على أهل الجهالة والجفاء إذا استمر ذلك وخشي أن يعدوه من فرائض الصيام مضافا إلى رمضان .
واعتذر عنه هو وغيره باحتمالات أخرى أيضا .
قال ابن القيم : وقال مطرف : كان مالك يصومها في خاصة نفسه قال وإنما كره صومها لئلا يلحق أهل الجاهلية ذلك برمضان فأما من يرغب في ذلك لما جاء فيه فلم ينهه
وقال الزرقاني : قال مطرف : فإنما كره صيامها لذلك فأما من صامها رغبة لما جاء فيها فلا كراهة أما صومها على ما أراده الشرع فلا يكره وقيل لم يبلغه الحديث أو لم يثبت عنده أو وجد العمل على خلافه ويحتمل أنه إنما كره وصل صومها بيوم الفطر فلو صامها أثناء الشهر فلا كراهة وهو ظاهر قوله ستة أيام بعد الفطر من رمضان .
وقال ابن عبد البر أيضا قال مالك : لم أسمع أحدا من أهل العلم والفقه ومن يقتدى به ينهى عن صيام يوم الجمعة وصيامه حسن وقد رأيت بعض أهل العلم يصومه وأراه كان يتحراه .
فهل يقبل مثل هذا من الإمام مالك والنهي عن صيام الجمعة مشهور وأحاديثه في الصحيح أيضا أم يعتذر عنه بمثل ما اعتذر عنه هنا ؟
وقد رد العلماء القول بالكراهة فقال النووي : قالوا يكره لئلا يظن وجوبه ودليل الشافعي وموافقيه هذا الحديث الصحيح الصريح وإذا ثبتت السنة لا تترك لترك بعض الناس أو أكثرهم أو كلهم لها وقولهم قد يظن وجوبها ينتقض بصوم عرفة وعاشوراء وغيرهما من الصوم المندوب .
وقال في تحفة الأحوذي : وقد استحب قوم صيام ستة من شوال لهذا الحديث وهذا هو الحق .
وقال الشوكاني : واستدلا على ذلك بأنه ربما ظن وجوبها وهو باطل لا يليق بعاقل فضلا عن عالم نصب مثله في مقابلة السنة الصحيحة الصريحة وأيضا يلزم مثل ذلك في سائر أنواع الصوم المرغب فيها ولا قائل به …. إلى أن قال : ولا يخفى أن الناس إذا تركوا العمل بسنة لم يكن تركهم دليلا ترد به السنة .
وقال الصنعاني : والجواب أنه بعد ثبوت النص بذلك لا حكم لهذه التعليلات وما أحسن ما قاله ابن عبد البر إنه لم يبلغ مالكا هذا الحديث يعني حديث مسلم .
ثالثا وأخيرا : التعلل لرد الحديث بعدم فعل النبي r له باطل من وجوه :
الأول : من قال إنه r لم يكن يصومها إن النفي يحتاج لنقل كما يحتاج الإثبات لنقل والسنة تثبت بالقول والفعل والإقرار فهذه سنة قولية وهي أقوى في الدلالة من الفعلية وهذه الأمور بدهيات لا تخفى على طالب العلم .
الثاني : لو سلم جدلا ثبوت أن النبي r لم يكن يصومها فقد ثبت عنه r أنه كان يترك الشيء وهو يريده من باب التيسير على الأمة وقد ذكر فضائل كثيرة لم يكن يفعلها وليس هناك أشهر من حديثه عن أفضل الصيام وهو صيام داود فقد كان يصوم يوما ويفطر يوما ولم يكن r يفعل ذلك كما ذكر أن أفضل القيام قيام داود كان يقوم نصف الليل وينام ثلثه ويقوم سدسه ولم يكن r يفعل ذلك والأمثلة كثيرة وفيما ذكرنا كفاية .
رحم الله امرأ عرف قدر نفسه ولا ريب أن الإغراب والشذوذ مظنة الشهرة فالحذر الحذر وقد قيض الله لهذا الدين علماء أجلاء بهم يقتدى ويهتدى فلابد من الرجوع لأقوالهم للتعرف على الحق وأما أن يركب المرء مركبا لا يلائمه فتلك هي المصيبة والله المستعان .