الجناية على الآثار
هذا الموضوع ليس جديدا بل هو قديم ولكنه يتجدد دوما .. ونحن اليوم نعيش بين طرفي نقيض ممن يدعي نسبة نفسه للسلف ولأهل الحديث ..
فريق دمر تراث الأمة وسفه قاصدا أو غير قاصد علماءها الأجلاء فأصبح يعل الرواية بأتفه العلل ويركب في ذلك مركب أشد المتشددين .
وفريق أضفى القدسية على كل أثر طالما ذكره العلماء في كتبهم وأضرب صفحا عن النظر في الإسناد والمتن نقدا وتمحيصا .
وقد بحت أصواتنا للوصول مع الفريقين لمنطقة الاتزان ، وقيدنا في ذلك بعض التقييدات ومنها : مقدمة المجلد الأول في السيرة الصحيحة قبل خمس وثلاثين سنة ، ومقال : بلا انفعال … خواطر لأحبتي أتباع مايسمى منهج المتقدمين ، ومقدمة تحقيقي لتفسير ابن كثير ، وماكتبناه في فقه مصطلح الحديث ، ثم كان آخر ذلك مقال : أطفال الآثار .
وقد أثار شجوني أثناء بحثي في روايات رد عين أبي قتادة في غزوة بدر جرأة بعض الباحثين على روايات ملأت الأسفار والأسافير ، وتلقاها علماء الأمة بالقبول وتواردوا عليها دون نكير .. فإذا به بصفاقة وقحة يعين نفسه وصيا على الروايات والآثار مخضعا إياها لتوقعاته واختياراته الخاصة به .. ليطهر تاريخ الأمة من الروايات التالفة وينقي السيرة مما اشتهر منها وهو غير صحيح .. وأصبح رمضان يتبع شعبان في ذلك ويتناقل الناس هذا التحرير العجيب على أنه القول الفصل في تلكم الحادثة .
بطبيعة الحال سوف ننشر دراستنا لتلك الرواية بالتفصيل ضمن مرويات غزوة بدر لكني سأكتفي في مقالي هذا برواية واحدة أراها أصلا كافية تماما في ثبوت القصة ، ومرادي بيان المنهجية التالفة في التعامل معها .
قال ابن إسحق في السيرة ضمن أحداث غزوة بدر : حدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – رمى عن قوسه حتى اندقت سِيَتُها فأخذها قتادة بن النعمان فكانت عنده، وأصيبت يومئذ عين قتادة بن النعمان، حتى وقعت على وجنته، فردّها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده فكانت أحسن عينيه وأحدّهما .ا.هـ
سلك الأخ وغيره مسلكا في أعلى درجات التشدد في التعامل مع تلك الرواية ، وبيان ذلك كالآتي :
بادئ ذي بدء سلك منهج المحدثين المتشددين في معالجة روايات السيرة وإخضاعها لقواعد علم المصطلح .. وهذا المنهج خلاف منهج جمهور علماء الأمة وإن كنا قد اخترنا هذا المنهج دون غيره في دراستنا للسيرة وقد أفضنا في ذلك في محاضرة علوم الحديث وعلاقتها بالسيرة النبوية .
ثم كان نقده للرواية بنسفه لرأسها وهو الإمام العلم الحجة في روايات السيرة ، الثقة الثبت فيها والصدوق حسن الحديث في غيرها من الروايات ؛ إذ اختار اختيارا فاشلا فاسدا مفسدا أن الراجح عنده أن ابن إسحق ضعيف مطلقا .. وهذا لم يقل به عاقل فضلا عن عالم لكنه لبس عليه بتضعيفات لبعض النقاد لها تخريجاتها عند علماء هذا الفن .. وهي قريبة من طعون كثيرة في أئمة أكابر كما حصل مع بعض المتعالمين في الإمام أبي حنيفة مثلا .
ثم تعامل المسكين مع قضية تصريح ابن إسحق بالتحديث وكأنه إمام الأئمة في علوم العلل فأراد أن يعل هذا التصريح بوجود رواة عن ابن إسحق رووه عنه بالعنعنة وهم أكثر ممن رواه عنه بالتحديث ..ولا يوجد أحد من العقلاء يقبل هذا الإعلال السخيف فإن الراوي قد يصرح بالسماع للبعض ولايصرح للبعض الآخر بل أحيانا التصرف بالعنعنة يكون من التلميذ لا من شيخه . والعجيب أن من صرح بالتحديث هو أوثق تلاميذ ابن إسحق وراوي سيرته المعتمد عند جل العلماء .
ثم أتى للشنشنة المعروفة من أخزم : هذه رواية مرسلة والمرسل ضعيف .
وهذه العلة كلمة حق أريد بها باطل وقد تكلمنا فيها مرارا في أثناء تحقيقات السيرة وأول ذلك في المقدمة .. وإطلاق هذا الحكم لايصدر هكذا إلا من مبتدئ علم شيئا وغابت عنه أشياء ! بل إن بعض المراسيل أقوى وأصح من المسانيد .. وهناك مرسلات صحاح لاشك في صحتها عند جميع العلماء وبعضها مخرج في الصحيح .. فكيف وهذه العلة غير مسلم بها عند كثير من العلماء بل هي خلاف اعتماد جل العلماء في روايات السيرة والتي قبلوها دون إسناد فكيف بإسناد صحيح إلى تابعي ثقة ؟؟
وتقصي الكلام في المراسيل يطول فهناك فرق بين مرسلات صغار التابعين ومرسلات كبارهم ومرسلات المخضرمين منهم وهناك فرق بين مرسلات من يحدث عن كل أحد ومن يحدث عن ثقات ومن لايعرف برواية غير رواية عن الصحابة وهناك فرق بين من يرسل في قضية تتعلق بمن له به خصوصية وقرب وملازمة وبين من يرسل وليس كذلك وهكذا ..
ومرسلنا هنا من هذا النوع الأخير ولايضبط ذلك إلا من فقه علم مصطلح الحديث .
فعاصم بن عمر بن قتادة إمام في المغازي عالم من كبار علماء التابعين بل اختاره عمر بن عبد العزيز في خلافته دون صحابة كانوا على قيد الحياة وأمره أن يجلس في جامع دمشق؛ فيحدّث الناس بمغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومناقب أصحابه .. فهل هذا لأنه سيحدث بروايات ضعيفة لا أساس لها ولا أزمة ؟؟
والله لم ينصح عمر بن عبد العزيز للأمة لو فعل ذلك وحاشاه .. ولم يقم الصحابة وخيار التابعين بواجبهم حيال السنة والسيرة إذ سكتوا عن ذلك فلم ينكروه ..وحاشاهم .
والعجيب الأعجب أنه يذكر رواية تتعلق بجده الذي هو والده الأعلى وفي منقبة عظيمة ..فقوس رسول الله صلى الله عليه وسلم عندهم في بيتهم ومعجزة إلهية حصلت مع جده دون سائر الصحابة ..
سبحان الله .. من ورث قلما من كاتب مشهور أو نظارة لممثل ولن نقول منديلا لمغنية أو سروالا لمؤسس .. تتناقله الأجيال ويستفيض أمره عند البعداء فكيف بأهل بيت الشخص نفسه وفي مثل ماذكرناه ؟ فوالله لخفاء ذلك أو عدم صحته لهو أبطل الباطل .
إن مآثر الآباء والأجداد تكون حديث الأسرة على مدار الأيام .. ويكرر صاحبها ذكرها عشرات المرات لأهل بيته ويتفاخر بها الأحفاد ويحرصون على ذكرها وهم على قناعة تامة أنه لاحاجة لهم أن يذكروا ممن سمعوها أصلا !!
فعاصم هنا يروى منقبة ومأثرة لجده ولم يخطر بباله ولن يدور في خلده أن يأتي متهور بعد ألف وأربعمائة سنة ليقول له : كلامك عن جدك غير مقبول حتى تخبرنا ممن سمعته لننظر في عدالته وضبطه .
هل هناك عاقل يمكن أن يقول إن عاصما الذي هو إمام المغازي علم أعظم منقبة لجده من تابعي ضعيف كذاب مثلا ثم بلع ذلك واتخذه دينا وعلمه للناس ورواه لعلماء الأمة في عصر الصحابة ؟ مايقول هذا إلا مبرسم من المبرسمين .
لاشك أن عاصما سمع ذلك مرارا وتكرارا من أبيه ومن أمه ومن سائر أهل بيته وهؤلاء لايحتاج للنظر حتى في حالهم لاعدالة ولاضبطا فهم إما صحابة أكارم وإما تابعون أفاضل لايعرف منهم الكذب ولايختل ضبطهم في أعظم منقبة لوالدهم ورب أسرتهم .
وعليه فالرواية صحيحة صحيحة صحيحة وسيأتي تخريجها كاملا في الكتاب إن شاء الله ..
ولايفوتني أن أزيد من الشعر بيتا فأقول إن الأخ النحرير رأى أن هذه الرواية ليست ضعيفة فقط بل هي في أشد درجات الضعف ولذا لم ير أنها تجبر بالشواهد والمتابعات .. فياويلاه ..ياويلاه .. اللهم غفرا !!
أنا سأكتفي بذلك فإن كثرة الحديث ينسي بعضه بعضا وآمل أن تكون اتضحت الفكرة وإنما كتبت ذلك ليحذر الإخوة من هذين المسلكين الخطيرين .. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .