هل يزكي المرء نفسه ؟
ما أقبح أن يزكي المرء نفسه .. وما أجمل الإزراء على النفس ولذا صنف الإمام ابن أبي الدنيا إمام مصنفات الرقائق كتابه محاسبة النفس والإزراء عليها
كيف لا .. والله سبحانه يقول في كتابه : فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى . ويقول : ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ..
وإذا كانت تزكية المرء لأخيه لها قيودها فكيف بتزكيته لنفسه ؟
قال صلى الله عليه وسلم : مَن كانَ مِنكُم مَادِحًا أخَاهُ لا مَحَالَةَ، فَلْيَقُلْ: أحْسِبُ فُلَانًا، واللَّهُ حَسِيبُهُ، ولَا أُزَكِّي علَى اللَّهِ أحَدًا، أحْسِبُهُ كَذَا وكَذَا، إنْ كانَ يَعْلَمُ ذلكَ منه .
والآثار عن السلف في هذا الباب أكثر من أن تحصى
فعن أَبي بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه قال : يَا لَيْتَنِي شَجَرَةٌ تُعْضَدُ ثُمَّ تُؤْكَلُ .
وروي نحو هذا القول عن جمع من الصحابة منهم عمر وأبو ذر وعائشة رضي الله عنهم أجمعين .
وقد روى ابن أبي شيبة عن أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه أنه أم قوماً مرة، فلما انصرف، قال: «ما زال الشيطان بي آنفا حتى رأيت أن لي فضلا على من خلفي، لا أؤم أبدا»
وقال عبد الله ابن المبارك – رحمه الله -: إذا عرف الرجل قدر نفسه، يصير عند نفسه أذل من كلب !
وقال يحيى بن معين –رحمه الله- :ما رأيت مثل أحمد؛ صحبناه خمسين سنة ما افتخر علينا بشيءٍ مما كان فيه من الخير.
وبينما عبد الله بن المبارك بالكوفة يُقرأ عليه كتاب “المناسك” انتهى الى حديث و فيه: قال عبد الله : و به نأخذ . فقال: من كتب هذا من قولي؟ فلم يزل يحكّه بيده حتى درَسَ ، ثم قال : ومن أنا حتى يُكتب قولي؟
وﻋﻦ ﻭهب بن منبه : “ﺃﻥ ﺭﺟﻼ ﺳﺎﺋﺤﺎ ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ ﻋﺰ ﻭﺟﻞ ﺳﺒﻌﻴﻦ ﺳﻨﺔ. ﺛﻢ ﺧﺮﺝ ﻳﻮﻣﺎ ﻓﻘﻠﻞ ﻋﻤﻠﻪ ﻭﺷﻜﺎ ﺇﻟﻰ اﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﻣﻨﻪ. ﻭاﻋﺘﺮﻑ ﺑﺬﻧﺒﻪ ﻓﺄﺗﺎﻩ ﺁﺕ ﻣﻦ اﻟﻠﻪ ﻋﺰ ﻭﺟﻞ ﻓﻘﺎﻝ: ﺇﻥ ﻣﺠﻠﺴﻚ ﻫﺬا ﺃﺣﺐ ﺇﻟﻲ ﻣﻦ ﻋﻤﻠﻚ ﻓﻴﻤﺎ ﻣﻀﻰ ﻣﻦ ﻋﻤﺮﻙ”.
وقد قال ابن القيم -رحمه الله-:
فإن العبد الصادق لا يرى نفسه إلا مقصراً والموجب له لهذه الرؤية : استعظام مطلوبه واستصغار نفسه ومعرفته بعيوبها ، وقلة زاده في عينه ، فمن عرف الله وعرف نفسه ، لم يرَ نفسه إلا بعين النقصان .ا.هـ
وتزكية المرء لنفسه منبعها أخبث أمراض القلوب وهو العجب والرياء والكبر وحب الظهور وازدراء الناس ..وأي صلاح للمرء إن حوت نفسه تلك العيوب ؟
وليس من لزوم التزكية للنفس أن يذكر المرء ذلك لفظا وصراحة فلربما زكى نفسه بفعاله بل يحصل كثيرا بإنكاره على غيره تزكية نفسه إذ يحمل في طياته تزكيته هو لنفسه من حيث يشعر أو لايشعر.. وهذا باب خفي يشبه باب الرياء بترك العمل لأجل الناس .
وإذا كان الأمر كما تقدم فبماذا نفسر قول يوسف عليه السلام : اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم ؟
وقول ابن مسعود : وَالَّذِي لا إلَهَ غَيْرُهُ ما مِن كِتَابِ اللهِ سُورَةٌ إلَّا أَنَا أَعْلَمُ حَيْثُ نَزَلَتْ، وَما مِن آيَةٍ إلَّا أَنَا أَعْلَمُ فِيما أُنْزِلَتْ، ولو أَعْلَمُ أَحَدًا هو أَعْلَمُ بكِتَابِ اللهِ مِنِّي، تَبْلُغُهُ الإبِلُ، لَرَكِبْتُ إلَيْهِ.
وخطب الناس فقال: كيف تأمروني أقرأُ على قراءةِ زيدِ بنِ ثابتٍ ، بعدما قرأتُ من في رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بضعًا وسبعين سورةً، وإن زيدًا في الكتاب مع الغلمانِ له ذؤابَتان.
وعن أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه قال : ” سَلُونِي فَوَاَللَّهِ لَئِنْ فَقَدْتُمُونِي لَتَفْقِدُنَّ رَجُلًا عَظِيمًا ”
وقال الحباب بن المنذر رضي الله عنه يوم السقيفة : أنا جذيلها المحكك ، وعذيقها المرجب . يمدح بذلك نفسه يريد أنه رجل يُسْتَشْفَي برأيه وعَقْله
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ : نَظَرْت إلَى أَقْرَأِ النَّاسِ فَلَزِمْته عَاصِمًا ، ثُمَّ نَظَرْت إلَى أَفْقَهِ النَّاسِ فَلَزِمْته مُغِيرَةً ، فَأَيْنَ تَجِدُ مِثْلِي ؟ ” .
ونحو ذلك من الآثار الكثيرة ؟
وقد حل لنا هذا الإشكال الإمام النووي رحمه الله بمبحث خاص حيث قال :
بابُ مدح الإِنسان نفسه وذكر محاسنه.
قال اللّه تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أنْفُسَكُمْ} [النجم: 32]
* اعلم أن ذكرَ محاسن نفسه ضربان: مذموم، ومحبوب، فالمذمومُ أن يذكرَه للافتخار وإظهار الارتفاع والتميّز على الأقران وشبه ذلك؛ والمحبوبُ أن يكونَ فيه مصلحة دينية، وذلك بأن يكون آمراً بمعروف أو ناهياً عن منكر أو ناصحاً أو مشيراً بمصلحة أو معلماً أو مؤدباً أو واعظاً أو مذكِّراً أو مُصلحاً بين اثنين أو يَدفعُ عن نفسه شرّاً أو نحو ذلك، فيذكر محاسنَه ناوياً بذلك أن يكون هذا أقربَ إلى قَبول قوله واعتماد ما يذكُره، أو أن هذا الكلام الذي أقوله لا تجدونه عند غيري فاحتفظوا به أو نحو ذلك.
* وقد جاء في هذا المعنى ما لا يحصى من النصوص كقول النبيّ صلى اللّه عليه وسلم ” أنا النَّبِي لا كَذِبْ ” ” أنا سَيِّدُ وَلَد آدَم ” ” أنا أوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الأرْضُ “: أنا أعْلَمُكُمْ باللَّهِ وأتقاكُمْ ” ” إني أبِيتُ عنْدَ ربي ” وأشباهه كثيرة،
وقال يوسف صلى اللّه عليه وسلم: ” {اجْعَلْني على خَزَائِنِ الأرْضِ إني حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55] وقال شعيب صلى اللّه عليه وسلم: {سَتَجِدُنِي إنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القصص: 27].
وقال عثمان رضي اللّه عنه حين حُصر ما رويناه في صحيح البخاري أنه قال: ألستم تعلمون أنَّ رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: ” مَنْ جَهّزَ جَيْشَ العُسْرَةِ فَلَهُ الجَنَّةُ؟ ” فجهّزتهم، ألستم تعلمون أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: ” مَنْ حَفَرَ بِئرَ رُومَة فَلَهُ الجَنَّةُ ” فحفرتها؟ فصدّقوه بما قاله.
وروينا في” صحيحيهما” عن سعد بن أبي وقاص رضي اللّه عنه أنه قال حين شكاه أهل الكوفة إلى عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه وقالوا: لا يُحسن يصلي، فقال سعد: واللّه إنّي لأول رجل من العرب رمى بسهم في سبيل اللّه تعالى، ولقد كنّا نغزو مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، …. وذكر تمام الحديث).
وروينا في صحيح مسلم، عن عليّ رضي اللّه عنه قال: والذي فلق الحبَّة وبرأَ النسمةَ، إنه لعهدُ النبيّ صلى اللّه عليه وسلم إليّ ” أنه لا يحبني إلا مؤمنٌ ولا يبغضني إلا منافق “…
وروينا في “صحيحيهما” عن أبي وائل قال: خطبنا ابنُ مسعود رضي اللّه عنه فقال:” واللّه لقد أخذتُ من في رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بضعاً وسبعين سورة، ولقد علمَ أصحابُ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أني مِنْ أعلمهم بكتاب اللّه تعالى وما أنا بخيرهم، ولو أعلم أن أحداً أعلمُ منّي لرحلتُ إليه.
وروينا في “صحيح مسلم” عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه سئل عن البدنة إذا أزحفت [أي أعيت ووفت]، فقال: على الخبير سقطتَ ـ يعني نفسَه ـ …. وذكر تمام الحديث.
ونظائر هذا كثيرة لا تنحصر، وكلُّها محمولة على ما ذكرنا، وباللّه التوفيق.ا.هـ
وما أجمل قول ابْنُ الْجَوْزِيِّ رحمه الله عَنْ قِصَّةِ يُوسُفَ – عَلَيْهِ السَّلَامُ -: فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ مَدَحَ نَفْسَهُ بِهَذَا الْقَوْلِ ، وَمِنْ شَأْنِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ التَّوَاضُعُ ؟
فَالْجَوَابُ : أَنَّهُ لَمَّا خَلَا مَدْحُهُ لِنَفْسِهِ مِنْ بَغْيٍ وَتَكَبُّرٍ ، وَكَانَ مُرَادُهُ بِهِ الْوُصُولَ إلَى حَقٍّ يُقِيمُهُ ، وَعَدْلٍ يُحْيِيه ، وَجَوْرٍ يُبْطِلُهُ : كَانَ ذَلِكَ جَمِيلًا جَائِزًا .ا.هـ
وبه نختم والحمد لله رب العالمين