لتحميل نسخة pdf اضغط هنا
لتحميل نسخة doc اضغط هنا
هل كل وباء طاعون ؟ وماذا عن كورونا ؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد
الطاعون هو في الأصل عذاب أرسله الله على بني إسرائيل واختلف في سبب هذا العذاب ثم بقي منه بعدهم مايصيب غيرهم
وهو متميز بسرعة انتشاره وشدة أثره في الإهلاك وعموم البلاء به
وقد ورد في الحديث أن الطاعون غُدَّة كغُدَّة البعير تخرج في الآباط والمراق وقال غير واحد من أهل العلم : وقد تخرج في الأيدي والأصابع وحيث شاء الله تعالى من البدن
قال عياض : أصل الطاعون القروح الخارجة في الجسد ، والوباء عموم الأمراض ؛ فسميت طاعونًا لشبهها بالهلاك بذلك وإلا فكل طاعون وباء وليس كل وباء طاعونًا .
وقال النووي : الطاعون مرض معروف وهو بَثَرٌ وورم مؤلم جدًا يخرج مع لهيب ويسودّ ما حواليه أو يخضرّ أو يحمرّ حمرة بنفسجية كدرة ويحصل معه خفقانُ القلب والقيءُ ويخرج في المراق والآباط غالبا وفي الأيدي والأصابع وسائر الجسد .
قال ابن سينا : والأسود منه قل من يسلم منه وأسلمه الأحمر ثم الأصفر .
وتختص المدينة المنورة بأنها لايصيب أهلها الطاعون كما ثبت في الحديث الصحيح وهذا من أظهر الأدلة على اختلاف الطاعون عن سائر الأوبئة فكل طاعون وباء وليس كل وباء طاعونا
و قد وقع في المدينة الوباء بالموت الكثير في زمن عمر رضي الله عنه . قال ابن حجر : ففي ” صحيح البخاري ” ؛ من طريق أبي الأسود الدؤلي قال : ( أتيت المدينة وقد وقع بها مرض ، و الناس يموتون موتًا ذريعًا ، فجلست إلى عمر …) فذكر الحديث . و الذريع ـ بالذال المعجمة ، بوزن عظيم ـ : الكثير السريع .
و لا يعارض هذا دعاء النبي صلى الله عليه وسلم برفع الوباء عنها ، لأنه إنما وقع بها نادرًا . و أما الطاعون فلم ينقل قط أنه وقع بها ، من الزمان النبوي إلى زماننا هذا ، ولله الحمد .
قال ابن حجر : وقد ظهر بما أوردته أن الطاعون أخصّ من الوباء ، وأن الأخبار الواردة في تسمية الطاعون وباء ، لا يلزم منه أن كل وباء طاعون ، بل يدل على عكسه ، و هو أن كل طاعون وباء ، لكن لما كان الوباء ينشأ عنه كثرة الموت ، وكان الطاعون أيضًا كذلك ، أطلق عليه اسمه .ا.هـ
وأول خصائص الطاعون التي لايشاركه فيها شيء من الأوبئة :
أنه كما تقدم لايدخل المدينة وقد ثبت ذلك في أحاديث منها مارواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : ” على أنقاب المدينة ملائكة ، لا يدخلها الطاعون و لا الدجال ” .
الثاني : أنه طعن من الجن :
فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ : ” فناء أمتي بالطعن والطاعون ” . فقيل : يا رسول الله ، هذا الطعن قد عرفناه ، فما الطاعون ؟ قال : ” وخز أعدائكم من الجن ، و في كلٍّ شهادة . وقد حسنه الحافظ ابن حجر وله طرق وفي بعض ألفاظه : شهادة لكل مسلم
قال ابن حجر : ويفارق الطاعون الوباء بخصوص سببه الذي لم يرد في شيء من الأوباء نظيره ، و هي كونه من ” طعن الجن ” . قال : وهو عندي لا يخالف قول الأطباء ـ فيما تقدم ـ من كونه ينشأ عن مادة سمية أو هيجان الدم أو انصبابه إلى عضو أو غير ذلك ، لأنه لا مانع أن ذلك يحدث عن الطعنة الباطنة ، فيحدث منها المادة السمية ، أو يهيج بسببها الدم ، أو ينصب . فللأطباء إذ لم يتعرضوا لكونه من طعن الجن معذرة ، لأن ذلك أمر لا يدرك بالعقل ولا بالتجربة ، و إنما تلقيناه من خبر الشارع ، فتكلموا على ما نشأ من ذلك الطعن بقدر ما اقتضته قواعد علمهم ، والله أعلم .ا.هـ
وهو كما قال الحافظ رحمه الله
قال ابن القيم : في كون الطاعون وخز أعدائنا الجن حكمة بالغة ، فإن أعداءنا منهم شياطينهم. وأما أهل الطاعة منهم فهم إخواننا ، و الله أمرنا بمعاداة أعدائنا من الجن و الإنس ، و أن نحاربهم طلبًا لمرضاته ، فأبى أكثر الناس إلا مسالمتهم ، فسلطهم عليهم عقوبة لهم ، حيث استجابوا لهم حين أغووهم و أمروهم بالمعاصي والفجور و الفساد في الأرض فأطاعوهم ، فاقتضت الحكمة أن يسلطهم عليهم بالطعن فيهم ، كما سلّط عليهم أعداءهم من الإنس ، حيث أفسدوا في الأرض و نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم . فهذه ملحمة من الإنس ، والطاعون ملحمة من الجن ، و كل منهما بتسليط العزيز الحكيم ، عقوبة لمن يستحق العقوبة ، وشهادة ورحمة لمن هو أهل لها . و هذه سُنة الله في العقوبات ؛ تقع عامة فتكون طهرًا للمؤمنين و انتقامًا من الفاجرين .ا.هـ
والثالث : أنه شهادة لكل مسلم كالقتل في الحرب
وقد دل عليه ماتقدم وكذا حديث أنس في الصحيحين ” الطاعون شهادة لكل مسلم ”
وحديث عائشة في أنه ” رحمة للمؤمنين ” .أخرجه البخاري وفي رواية عنها : ” المقيم فيه كالشهيد ” وفي لفظ ” ومن أصيب به كان شهيدًا ” .
وفي حديث شرحبيل بن حسنة : ” إن هذا يعني الطاعون رحمة ربكم ” . وفي رواية لمعاذ : ” وشهادة يختص الله بها من يشاء منكم ” .
وعن أبي هريرة في الصحيح أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال : ” الشهداء خمسة : المطعون والمبطون و الغرق و صاحب الهدم والشهيد في سبيل الله ” وأحاديث أخرى بنحو ذلك .
وفي كون الطاعون شهادة خصوصية أخرى وهي أن شهادته كشهادة المقتول في سبيل الله في الآخرة وليست كشهادة سائر من ذكر في هذا الحديث لما رواه عتبة بن عبدٍ السُّلمي يحدث عن النبي- صلى الله عليه و سلم – قال :” يأتي الشهداء و المتوفون بالطاعون ، فيقول أصحاب الطاعون : نحن شهداء . فيقال : انظروا ، فإن كانت جراحاتهم كجراح الشهداء تسيل دمًا ، و ريحهم كريح المسك ، فهم شهداء . فيجدونهم كذلك “.
قال ابن حجر : هذا حديث حسن
وعن العرباض بن سارية رضي الله عنه ، أن رسول الله – صلى الله عليه و سلم – قال :
” يختصم الشهداء و المتوفون على فرشهم إلى ربّنا جل جلاله ، في الموتى يتوفون في الطاعون . فيقول الشهداء : إخواننا قتلوا كما قتلنا . و يقول المتوفون على فرشهم : إخواننا ماتوا على فرشهم كما متنا . فيقول الله عز وجل : انظروا إلى جراحهم ، فإن أشبهت جراح المقتولين فإنهم منهم . فإذا جراحهم أشبهت جراحهم ” قال ابن حجر : وهذا حديث حسن صحيح ا.هـ
والحديثان رواهما أحمد وغيره
وقد أطبق أهل العلم حسب تعبير ابن حجر على أن الموت بالطاعون فضيلة .
والرابع : أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا به لأمته في حديث أبي موسى بلفظ الخبر ولكن دل عليه صراحة مارواه أبو بردة أخو أبى موسى الأشعري رضي الله عنه – قال : قال رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ ” اللهم اجعل فناء أمتى قتلًا في سبيلك بالطعن والطاعون ” أخرجه أحمد وغيره وصححه ابن حجر
وروي عن أبي بكر الصديق أنه لما جهز الجيوش إلى الشام قال : ” اللهم أفنهم بالطعن أو الطاعون ” .
وعن كُرْدُوس الثعلبى قال : لما وقع الطاعون – يعني بالكوفة – قال المغيرة بن شعبة : ( إن هذا العذاب قد وقع فاخرجوا عنه ) . قال : فذكرته لأبي موسى فقال : لكنِ العبدُ الصالح أبو بكر الصديق قال : ( اللهم طعنًا و طاعونًا في مرضاتك ) .
قال ابن حجر : وكأنه لما رآهم على حالة الاستقامة ، خشي عليهم الفتنة ، فأحب أن يكون موتهم على الحالة التي خرجوا عليها قبل أن يفتنوا بالدنيا.
قال : وكأن أبا بكر الصديق سمع الحديث المرفوع فتأسى به.
وعن شرحبيل بن حسنة موقوفا ومرفوعا : إن هذا رحمة ربكم ودعوة نبيكم وقبض الصالحين قبلكم .
وعن معاذ وأبي عبيدة نحوه
والخامس : يتميز الطاعون بحكم خاص وهو عدم جواز الفرار منه كما لا يجوز الفرار من الزحف لأنه في حكم الجهاد والثبات فيه كالثبات في الصف حتى يقتل فيكون شهيدا
عن عائشة رضي الله عنها ، أنها قالت : سألت رسول الله – صلى الله عليه و سلم – عن الطاعون ، فأخبرني أنه :” كان عذابًا يبعثه الله على من يشاء ، وجعله رحمة للمؤمنين . فليس من رجل يقع الطاعون ، فيمكث في بيته صابرًا محتسبًا ، يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له ، إلا كان له مثل أجر الشهيد ” وفي لفظ ” فيمكث في بلده ” وفي آخر “فلا يخرج من البلد صابرًا محتسبًا ” أخرجه البخاري وغيره .
قال تعالى : : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ … }
عن قتادة قال : وقع الطاعون فخرج منهم الثلث وبقى الثلثان . ثم أصابهم فخرج الثلثان وبقى الثلث ثم أصابهم فخرجوا كلهم ؛ فأماتهم الله عقوبة .
وفي لفظ : مقتهم الله على فرارهم من الموت فأماتهم الله عقوبة ثم بعثهم إلى بقية آجالهم ليُتَوِفَّوْها ولو كانت آجال القوم حانت ما بعثوا بعد موتهم .
وعن عائشة رضى الله عنها تقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” فناء أمتى بالطعن أو الطاعون ” . قالت : فقلت: يا رسول الله ، هذا الطعن قد عرفناه ، فما الطاعون ؟ قال : ” غُدّةٌ كغُدَّة الإبل ، المقيمُ فيها كالشهيد ، و الفارّ منها كالفارّ من الزَّحْف ” .
صححه ابن خزيمة وله طرق عنها .
وقد ثبت في طرق قصة عمر مع طاعون عمواس أنه أمرهم بالخروج للتنزه عن المكان بعد ذلك فخرجوا مع أبي موسى فأشكل هذا الأمر قال الحافظ : أن أبا موسى حمل النهى عن الخروج من البلد الذى يقع فيه الطاعون ، على قصد الفرار منه ، من غير أن يضيفه إلى معنى آخر غير الفرار ؛ كما إذا كان الخارج عنها ممن لم يكن من أهلها ، فاستوخمها ، فخرج عنها إلى بلد آخر يوافق ما ألفه من بلدته التي نشأ بها . و إلى ذلك يشير قول عمر في كتابه لأبي عبيدة : ( إنك أنزلت الناس أرضًا غميقة ) ؛ و هى بغين معجمة مفتوحة و ميم مكسورة وبعد التحتانية الساكنة قاف ؛ أى قريبة من المياه و النُّذُوْر ، و الغُمْق: فساد الريح و خُمومها من كثرة الأَنْداء ، فيحدث منه الوباء . فإذنُ عمر في الخروج من تلك الأرض ، يلتحق بالتداوي ، و ليس هو لمحض الفرار من الموت ، و على ذلك يحمل كتابه إلى أبي عبيدة ؛ يأمره بالرحيل إليه .
وقد اختلف العلماء في حكم الفرار منه وعده بعضهم في الكبائر وذهب البعض للكراهة بل للجواز والأقرب أنه من المحرمات .
وعلى الرغم من استناد عمر لحديث عبد الرحمن واطمئنانه للرجوع بعد سماعه ظل الناس يرمونه بأنه فر من الطاعون فقد روى الطحاوي عنه أنه قال: اللهم إن الناس نحلوني ثلاث خصال ، و أنا أبرأ إليك منهن ؛ زعموا أني فررت من الطاعون ، و أنا أبرأ إليك من ذلك ..
و ذكر أمرين آخرين . قال ابن حجر : وسنده صحيح .
قال الطحاوي : فدل على أن رجوعه كان لغير الفرار ، و كذا كتابه إلى أبي عبيدة ، فيما أمره به من خروجه هو ومن معه من الجند ؛ إنما هو بمعنى التداوي بالانتقال أرض وَخْمة إلى أرض صحيحة .
وقد صح عن عمر أنه كان يقول : اللهم اغفر لي رجوعي من سرغ . ووجهه الحافظ بأنه لعله كان يرى الإقامة قريبا وعدم العودة للمدينة .
وسنتعرض لشيء من ذلك في مقال العدوى إن شاء الله تعالى
والسادس : أنه كما لايجوز الفرار منه فلايجوز القدوم عليه إذا وقع بأرض
ومن المشهور قصة عمر رضي الله عنه في الصحيح عندما رجع بالجيش عام طاعون عمواس ومارواه عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ” إذا سمعتم به بأرض فلا تَقْدُمُوا عليه ، و إذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه ”
وقد يشكل وروده بلفظ الوباء وهذا مادفع البعض أن يعمم الحكم في الأوبئة جميعها وليس ذلك بصحيح فإن الطاعون يسمى وباء ولكن ليس كل وباء يأخذ نفس الحكم كما قدمنا في بداية المقال .
وعن عامر بن سعد بن أبي وقاص قال : جاء رجل إلى سعد يسأله عن الطاعون ، وعنده أسامة – هو ابن زيد بن حارثة – ، فقال أسامة رضي الله عنه : أنا أخبرك ؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ” إن هذا الطاعون عذاب أرسل على من كان قبلكم – أو على طائفة من بني إسرائيل – ، يجيء أحيانًا و يذهب أخرى . فإذا وقع بأرض و أنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه ، و إذا سمعتم بأرض قد دخلها فلا تدخلوا عليه ” أخرجه مسلم وغيره
وعن العاص بن هشام أن رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ قال في غزوة تبوك : ” إذا وقع الطاعون بأرض و أنتم بها فلا تخرجوا منها و إذا كنتم بغيرها فلا تقدموا عليها ” .وغير ذلك من أحاديث .
والحكمة في عدم القدوم عليه حملها كثير من العلماء على عدم إلقاء النفس إلى الهلكة ولكن يشكل على هذا ماتقدم من اختصاصه بأمور مشابهة للجهاد في سبيل الله وقد وقفت على كلام للإمام ابن دقيق العيد وافق ما ظهر لي من ارتباط ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم : لاتتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا .
قال رحمه الله: الذي يترجح عندي ، في الجمع بين النهي عن الفرار من البلد الذي وقع به الطاعون ، و النهي عن القدوم عليه ـ والله أعلم ، أن الإقدام عليه يعرض النفس للبلاء و ما لعلها لا تصبر عليه ، و ربما كان به ضرب من الدعوى لمقام الصبر والتوكل ، فمنع ذلك لاغترار النفس و دعواها ما لا تثبت عليه عند التحقيق . وأما الفرار ، فقد يكون داخلًا في باب التوغل في الأسباب ؛ متصورًا من يحاول النجاة مما قدر عليه ، فيقع التكلف في القدوم كما يقع التكلف في الفرار ، فأمر بترك التكلف فيهما . و قد لمح الصحابي ما ذكرته في أحد الشقين ، فقال : ( أفرارًا من قدر الله ؟ ) ، و إلى ما قررته يشير قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ” لا تتمنوا لقاء العدوّ ، وإذا لقيتموهم فاصبروا ” . فأمرهم بترك التمني ؛ لما فيه من التعرض للبلاء و خوف الاغترار بالنفس ، إذ لا يؤمن غدرها عند الوقوع . ثم أمرهم بالصبر عند الوقوع تسليمًا لأمر الله تعالى ا.هـ
والسابع : من فضيلة الطاعون عن سائر الأوبئة أن بعض الصحابة دعا به لنفسه وأهله وبعضهم فرح به وفضله على حمر النعم ومتاع الدنيا
فعن معاذ بن جبل أنه لما وقع قال عنه : رحمة ربكم و دعوة نبيكم و موت الصالحين قبلكم ثم دعا فقال : اللهم فآت آل معاذ النصيب الأوفر من هذه الرحمة . فما أمسى حتى طعن ابنه عبد الرحمن وأحب الناس إليه الذي كان يكنى به . فرجع معاذ من المسجد ، فوجده مكروبًا ، فقال : يا عبد الرحمن ، كيف أنت ؟ فاستجاب له ، فقال عبد الرحمن : يا أبة {الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } فقال معاذ رضي الله عنه : و أنا ستجدني إن شاء الله من الصابرين . فمات من ليلته ، و دفن من الغد . فجعل معاذ بن جبل يرسل الحارث بن عميرة إلى أبي عبيدة يسأله : كيف أنت ؟ فأراه أبو عبيدة طعنة بكفه ، فبكى الحارث بن عميرة إلى أبي عبيدة ، و فرق منها حين رآها ، فأقسم أبو عبيدة بالله ، ما يحب أن له مكانَها حُمْر النَّعَم . وحسنه ابن حجر
وفي رواية : لما اشتعل الوجع قام أبو عبيدة بن الجراح في الناس خطيبًا ، فقال : أيها الناس ، إن هذا الوجع رحمة ربكم و دعوة نبيكم و موت الصالحين قبلكم ، و إن أبا عبيدة يسأل الله أن يقسم لأبي عبيدة حظه منه . فطعن فمات واستخلف معاذ بن جبل على الناس ، فقام خطيبًا بعده ، و قال مثل ما قال ، لكن قال : أن يقسم لآل معاذ حظهم . فطعن ابنه عبد الرحمن ، فمات . ثم قام . فدعا لنفسه فطعن في راحته ، فكان يقول : ما أحب أن لي بها شيئًا من الدنيا .
والثامن : مما يعد من خصائص الطاعون الاختلاف في جواز القنوت برفعه أشد من غيره من الأوبئة
فقد قال بعض الشافعية : الطاعون أخصّ من الوباء ، و قد وقع في زمن خيار الصحابة ، ثم في زمن خيار التابعين ، و لم ينقل عن أحد منهم أنه قنت برفعه .
وقال ابن مفلح محتجا على منع القنوت في الوباء مطلقا : لا يقنت لرفع الوباء في الأظهر ، لأنه لم يثبت القنوت في طاعون عَمَواس ، و لا في غيره .
بل كره بعض الحنابلة الدعاء مطلقا برفعه ؛ لأن معاذًا امتنع من ذلك واعتل بكونه شهادة ورحمة و دعوة نبينا صلى الله عليه وسلم لأمته .
قال ابن حجر : أما الاجتماع له ، كما في الاستسقاء ، فبدعة حدثت في الطاعون الكبير سنة تسع و أربعين وسبع مائة بدمشق ثم ذكر الاختلاف في الفتوى بذلك فيه وفي غيره .
ثم قال : لو كان مشروعًا ، ما خفي على السلف ثم على فقهاء الأمصار و أتباعهم ، في الأعصار الماضية . فلم يبلغنا في ذلك خبر و لا أثر عن المحدثين ، و لا فرع مسطور عن أحد من الفقهاء . و ألفاظ الدعاء و صفات الداعي ، لها خواص و أسرار ، يختصّ بها كل حادث بما يليق به . و المعتمد في ذلك الاتّباع ، و لا مدخل للقياس في ذلك .
وفي نهاية مقالنا الميمون .. يتبين أن وباء الكورونا لايصح تنزيل ماورد في أحاديث الطاعون عليه ومثله أي وباء آخر وقد كتبنا هذا المقال لكثرة المتحدثين عن الكورونا المحتجين في نازلته بماورد في الطاعون ..
ونلفت النظر لوهم يتوارد عليه البعض وهو أن وباء الكورونا أخطر وباء مر على الناس وأسرعها انتشارا ونحو ذلك وهذا خطأ تاريخي محض فإن الطواعين فقط التي مرت على الناس منذ زمن النبوة بالعشرات والهلكى فيها بمئات الألوف في الطاعون الواحد وسرعة الانتشار فيها كانت تقدر بالنفس الواحد وأول طاعون منها كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وكان في المدائن ويسمى طاعون شيرويه وأعظمها كان الطاعون الذي وقع في سنة تسع وأربعين وأربع مائة عمّ الأرض حتى أن مكة لم يدخلها الطاعون قط إلا هذه المرة ، فمات
بها خلق كثير من أهلها و المجاورين بالطاعون وتواتر النقل بذلك وقد مات فيه الطيور والوحوش و الغزلان و الكلاب و القِطاط بالخراج تحت الإبط و بغير ذلك من أنواع الطاعون و لم يسلم منه في هذا العام من مدن الأرض كلها غير مدينة النبي – صلى الله عليه وسلم ومن مات فيه – على سبيل التقريب – نصف الموجودين من العالم الحيواني . وبلغ الموت بالقاهرة في كل يوم عشرين ألفًا و قيل خمسة و عشرين ألفًا و قيل سبعة وعشرين ألفًا و ذكر ابن كثير في ” تاريخه ” أن من الناس في أمر القاهرة المقلل و المكثر ؛ فالمقلل يقول : أحد عشر ألفًا و المكثر يقول : ثلاثون ألفًا . والتلخيص : أن جميع الطواعين الماضية بالنسبة إلى هذا قطرة من بحر أو نقطة من دائرة .
هذا ، وقد كان ملجأ الناس في هذه الطواعين وفي غيرها من الأوبئة الكثيرة جدا هو اللجوء إلى الله ولزوم المساجد ولايحفظ عنهم ترك صلاة الجماعة ولا إيقاف الجمعات كما شذت الهيئات التابعة للحكومات بالفتوى بذلك اليوم مع تفاهة هذا الوباء في مقابلة مامر سابقا .
هذا وقد صنف جماعة من أهل العلم في الطاعون خصيصا عدة مصنفات ومن أجمعها ومنه استفدنا الكثير في هذا المقال كتاب الحافظ ابن حجر بذل الماعون في فضل الطاعون والحمد لله أولا وآخرا ونسأل الله تعالى أن يرزقنا العافية في الدنيا والآخرة وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .