هذه محاضرة ارتجلت في جمع من الإخوة الكرام في رحلة استضافتي بالإحساء من قبل أخينا وتلميذنا الشيخ أبي عبد الرحمن عبد العزيز مبارك الحنوط ومعه الأخ مشعان العتيبي صاحب دار فواز للنشر عام 1411هـ وكانت على جلستين بينهما عشاء الضيافة
دروس من السيرة : لماذا لا نشعر بالخشوع ونتأثر بالقرآن كالصحابة ؟ جلسة الإحساء 2
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد؛
فإكمالا لما بدأناه من بعض الفوائد التي تتعلق بالسيرة، الإخوان مصرون على أن يكون الكلام في بعض الأمور التي تتعلق بالسيرة .
والحديث فيها لا يُمل ولا ينتهي الاستفادة من الدروس والعبر التي تؤخذ من السيرة، وهناك أمر قد يكون مفيدا لجميع الحاضرين وهو الاستفادة من السيرة بالذات في المرحلة المكية التي صٌهر فيها الصحابة وتربوا فيها وكانت المرحلة التي عقبت تلك المرحلة ما هي إلا نتيجة لإيش؟ للمرحلة المكية.
وإذا تدبر الإنسان هذه المرحلة يجد فيها من الدروس والعبر الكثير، وأول ما يتبادر إلى الذهن هو ما نشعر به جميعا إلا من رحم الله، من تقصير في الطاعة وعدم الشعور بالخشوع واستحضار هيبة الله سبحانه وتعالى والتأثر بتلاوة كتابه سبحانه وتعالى، وإعظام أوامر الله عز وجل وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم وغير ذلك من الأمور التي تحز في نفس كل مسلم ويتمنى أن يكون من الذين إذا ذُكر الله وجلت قلوبهم.
أين نحن من هذه النوعية التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في كتابه، وذكر أن هؤلاء هم المؤمنون حقا، أين اقشعرار الجلد عند تلاوة كتاب الله سبحانه وتعالى ؟نحن نسمع كلام الله ليل نهار وللأسف كثير منا يعني يسمع كلام الله سبحانه وتعالى وهو لاهٍ، يتكلم، يشرح ، ينشغل ، أين هذا التأثير الذي كان يشعر بهى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ؟ هذا له عامل كبير جدا يتبين بدراسة السيرة.
ويذكرني ذلك ببيت يعني كنت قرأته على بعض الجدران يقول أيش الشاعر:
لا تحسب المجد تمراً أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا
فإذا أراد الإنسان أن يبلغ مثل هذه الدرجة فلابد من مرحلة هامة جدا وهي جهاد النفس، ومرحلة جهاد النفس من أصعب المراحل وهناك أشياء تساعد الإنسان على مجاهدة نفسه، وتنتج معه إنتاجا كبيرا، وهو يعني نستطيع أن نحصرها في أن يحصل الإيمان بعد التعب والمشقة، هذه النقطة التي اختلفنا فيها عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهي نقطة أساسية جدا، نحن بحمد الله سبحانه وتعالى ولدنا في الإسلام وتربينا في الإسلام وتعلمنا القرآن في الصغر قبل ما نعي وقبل ما ندرك، وفي كل مكان الدين والصلوات والمشايخ والعلم وكذا، فما أخذنا هذا الدين بعد جهد وتعب ومشقة، حصلناه بكل يسر وسهولة، فلم نشعر بقيمته كما يقولون :
….. والعود في أرضه نوع من الحطب
ما يشعر بقيمة العود الناس الجالسون في الهند، فالعود يملأ البلد، لكن يشعر به من؟ الذين ما عندهم العود .
فنحن ما شعرنا بقيمة الدين الذي نحن نعيش في بركاته وتربينا في كنفاته هذا ما شعرنا بقيمته إلى الآن إلا من رحم الله .
فلو تدبرنا في سيرة الصحابة في تلك المرحلة نجد العجب العجاب، يمكن ما واحد منهم إلا ضُرب، ضرب ضربا في بداية الدين وابتلي وضُيق عليه وشُدد عليه وتحمل مشاق الدعوة الشيء الكثير، لأجل هذا هو قابض على دينه أيش ؟ بقوة، ما يمكن يفرط في هذا الشيء الذي حصله بصعوبة بالغة وبذل لأجله الغالي والرخيص والنفس والنفيس.
ونحن ماذا بذلنا للدين ؟ ماذا عمل الإنسان لدين الله سبحانه وتعالى ؟ هل يتخيل منا واحد أن يُضرب في الشارع في وسط الناس في سبيل الله، أن يُضرب من أجل أنه يدعو لله سبحانه وتعالى ، بدءا بالنبي صلى الله عليه وسلم ضُرب حتى قيل مات عليه الصلاة والسلام، ضرب ضربا لو أنت تتخيله مع أحداث القصة التي ضرب فيها النبي صلى الله عليه وسلم ما يمكن أن تحتمل أن ترى رجلا يضرب في الشارع بهذه الصورة، تخيل أنت : رجل كبير محترم فاضل وتجده ملتفا حوله عصابة من الفاسدين جالسين يضربون فيه يضربون فيه حتى يسقط في الأرض ويبرك فوقه واحد منهم، تخيل أنت ماذا يكون شعورك؟ إذا رجل عادي رجل كبير ما تتحمل مثل هذه الصورة، فما بالك بالنبي صلى الله عليه وسلم هو الذي حصل له هذا وماذا بعد، أبو بكر الصديق، ما وجدوا أحدا يستنجدون به في مكة إلا أبا بكر، لكن أبو بكر ماذا عنده ؟ هو كذلك ما له حيلة، ولكنه جاء منقذا للنبي صلى الله عليه وسلم، يقول: “فذهب الصريخ لأبي بكر الصديق قالوا: أدرك صاحبك فقد قُتل” أي النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء أبو بكر مسرعا له أربع غدائر ..أربع ضفائر، شعره يضفره أربع ضفائر، أسماء تقول: “والله لقد خرج من عندنا وإن له لأربع غدائر” فأقبل يقول: “أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله، وقد جاءكم بالبينات من ربكم” ويدافع عنه، فقالوا من هذا، قالوا أبو بكر المجنون، عادي جدا الواحد منهم ينضرب يسب متحمل، جاءه يعرف ما سيحصل له ، وأبو بكر يدري إذا ضربوا الرسول ما يضربوه؟
فيقول: “فتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيش؟ واجتمعوا على أبي بكر” تقول أسماء: “فوالله لقد رجع إلينا وما يمسك شيئا من شعره إلا جاء معه” من كثرة الضرب يمسك شعره يأتي معه مما فُعل به رضي الله تعالى عنه.
وهل هذه هي المرة الأولى أو الوحيدة التي ضُرب فيها أبو بكر الصديق ؟ ضُرب مرة في بداية الإسلام يعني بالنعال، يقول : والله جلسوا يضربونه بالنعال حتى ما عُرف وجهه من أنفه أو أنفه من وجهه، استوى الوجه مع الأنف مع كثرة الضرب وحُمل إلى بيته صريعا ما سيشكون أنه قُتل، هذا أبو بكر الصديق.
طيب، عمر .. عمر ضُرب أشد من ذلك وهو عمر بن الخطاب انظروا شدته وبأسه ومنزلته في قومه لكن لما أسلم قالوا صبأ عمر يقول: “فمال علي أهل الوادي”، ابن عمر يقول: “إني واقف فوق سطح البيت وأنا غلام صغير أعي ما يحصل، يقول : فوالله وجدت الوادي قد سال بالناس”، يا جماعة واحد لو اجتمع عليه خمسة أو ستة أيش يعملون فيه ، هذا واد يسيل بالناس يلتم على واحد فقط، يقول: “فوالله قاتلهم حتى ارتفعت الظهيرة” عمر لحاله، حتى خارت قواه ما أنقذهم منه إلا رجل كافر جعله في جواره، أجاره أول يوم ثم اليوم الثاني بعده ، وضُرب وضرب ويتحمل، هذه بس في البدايات هذه يوم أسلم عمر يعني غير ما حدث أثناء الفترة المكية كلها من تحمل الأذى تنوء بحمله الجبال.
أبو ذر الغفاري يوم أسلم ..حتى ما أسلم فقط جاء يتعرف على النبي صلى الله عليه وسلم، أرسل أخاه أُنيسا وكان شاعرا … هم جاءوا من غفار معهما يعني أمهما، يقول: “أرسلت أخي أُنيس … لأن أبا ذر الغفاري كان يصلي قبل البعثة وقبل ما يعرف النبي صلى الله عليه وسلم، كان يصلي الليل كله حتى يُلقى كأنه خِفاء –يعني مثل الثوب البالي من شدة التعب من الصلاة، طبعا هذه كلها روايات صحيحة- يلقى يقول : ما يُوقظني إلا حر الظهيرة” من شدة التعب من الصلاة، ثلاث سنوات صلى قبل أن يُبعث النبي أو قبل أن يعرف النبي صلى الله عليه وسلم .
…كيف الصلاة ؟
_ الصلاة ..أصلا هو يقول: “أتوجه حيث وجهني الله” لما سُئل كيف كنت تصلي يا عم ؟ عبد الله بن الصامت تلميذه هو الذي سأله، لكن عموما الصلاة أصلا كانت في ديانة أهل الجاهلية وتركوها كما للأسف ترك الصلاة بعض أمة النبي صلى الله عليه وسلم الآن، لأن أهل الجاهلية أمة إسماعيل عليه السلام وبقوا على دين إسماعيل فترة طويلة جدا من الزمان حتى جاء فيهم عمرو بن لُحي أول من غيّر دين إسماعيل هو، ثم فرطوا تركوا الصلاة تركوا الزكاة، كانت عندهم هذه الشعائر، فبقي عندهم شيء ولأجل هذا كان نفس زيد بن عمرو بن نُفيل كان يتوجه إلى الكعبة ويصلي ويسجد على راحته أسماء تقول هكذا، كان يسجد على راحته وما يحضره كيفية الصلاة التي كانت تصلى لله سبحانه وتعالى، فأبو ذر الغفاري لما علِم بالنبي صلى الله عليه وسلم قيل له إن بمكة رجل يقول بمثل ما تقول يعني يشبهك في بعض الأشياء فأراد أن يتعرف فأرسل أخاه أنيسا ، فذهب أُنيس وجاء يقول : والله الرجل يقول كلام ما هو بقول شاعر ولا كذا، وهو رجل شاعر، فقال: “ما أشفيتني” فراح هو بنفسه لأجل يتحقق من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ويتعلم منه، فلما دخل مكة أراد أن يسأل عن النبي صلى الله عليه وسلم فسأل، فجاء إلى رجل استضعفه، قال : فقلتُ: “أين الذي تدعونه الصابئ ؟” فالرجل أول ما سأل عنه قال: “الصابئ”، ثم التفوا عليه كلهم يقول: “فمالوا عليّ ميلة تركوني وأنا كالنصب الأحمر من الدم” كله صار دما من الضرب وما أسلم بعد، يعني هذا أبو ذر الغفاري ضُرِب حتى دمي.
ابن مسعود يعني جاء من طريقين يقوي بعضهما الآخر، أنه أول- من جهر بالقرآن في مكة وقد فصل هذا ابن إسحاق بالسند الأول وذكر أنه أراد أن يجهر بالقرآن قال: “والله لأجهرن به بين أظهرهم”، قالوا نخاف عليك، فقال والله لأجهرن به بين أظهرهم ! ابن مسعود أيش ؟ رجل راعي غنم كان يشتغل عن عقبة بن أبي معيط، لكن عنده نفس عالية جدا يعرف أنه على الحق فما يرضى أن يكتم هذا الحق في نفسه، فجاء في وسط أندية قريش وجلس وبدأ يفتتح سورة الرحمن وبدأ يقرأ فقالوا من هذا؟ قالوا ابن أم عبد، قالوا : وماذا يفعل ؟ قالوا : يتلو بعض ما جاء به محمد _ عليه الصلاة السلام _فقاموا وانهالوا عليه وضربوه ضربا حتى كاد أن يموت، فلما كلموه بعد ذلك الصحابة قال :”وإن شئت لأجهرن غدا فيهم” .
فكان عندهم الجلد والتضحية والفداء، الآن هناك أناس في أمس الحاجة لمن يعلمهم لمن يدعوهم إلى الله سبحانه وتعالى لمن يصلح لهم عباداتهم، عندهم شيء في اعتقادهم يحتاج إلى إصلاح يصلح، عندهم شيء في عبادتهم يحتاج إلى إصلاح يُصلح من الذي يقوم بهذا الشيء ؟ تُرك هذا الأمر لبعض الناس الدراويش الذين لا يعرفون .. فلابد أن نقوم نحن بهذا العمل، كل من يتيسر له الدعوة إلى الله ولو في محيطة لأجل أن يتحمل لو ذاق ..لو ذاق فعلا تحمل هذا الشيء وأهميته وكيف تأثيره على نفسه، ما توانى لحظة.
أضف إلى هذا قضية قيام الليل التي يقصر فيها أكثر الناس إلا من رحم الله، أيضا هذه لها تأثير كبير، الصحابة الله عز وجل دربهم تدريبا في أول الإسلام جلسوا حولا كاملا، سنة كاملة، مفروضا عليهم قيام الليل، نزلت أول سورة المزمل في بداية البعثة، فأمرهم الله سبحانه وتعالى بقيام الليل حولا كاملا، يقول : حتى انتفخت أقدامهم، هذا تدريب .. تدريب على العبادة وعلى تحمل المشقة وعلى أن هذا الدين ما هو دين فقط يأخذه ويمشي.. لا ، هذا دين فيه مسئولية وفيه تكاليف لابد أن يتحملها، فالذي يتحمل هذا في بداية الأمر وهو على خلاف ما عليه قومه جميعا هل تظنون أنه لا يضحي من أجل هذا الدين من بعد أن رسخت قدمه وتربى ورأى جمال هذا الدين وما فيه من الخير؟ لا يمكن. ما يمكن ما يضحي ، ما يمكن يشتري شيئا من عرض الدنيا بهذا الدين أبدا .
وأما نحن فالحمد لله الواحد ولد في الإسلام وقام تعلم الصلاة ما عمره أخد كفا لأجل الدين صح؟ ولا تُفل في وجهه، النبي صلى الله عليه وسلم تُفل في وجهه مرتين وهذا الثابت بالأسانيد الصحيحة فما بالك بما لم يثبت ؟ وبما لم يُنقل ؟ بُصق في وجهه صلى الله عليه وسلم مرتين .. النبي صلى الله عليه وسلم ! الواحد منا يُبصق في وجهه كيف يتحمل هذا الشيء ؟ والنبي صلى الله عليه وسلم الذي هو خيرة من كان على ظهر الأرض ويُبصق في وجهه ويتحمل في سبيل الله.
الواحد منا إذا جاء يدعو بعض الناس وما وجدهم منتبهين نفسيته كلها تدمر ثم لا يعرف يتكلم يضيع الكلام منه إذا وجد الناس مشغولين عنه ويشعر كأنه يعني ظُلم كأنه يقول أنا جالس وأتعب حالي والناس ما عندهم استجابة …إذا وجد بعض الناس منشغلين ! وهو أيش هو ؟ ما هو هذا الشخص؟ ما يسوى شيء، فما بالك بالنبي صلى الله عليه وسلم يقف من الصباح إلى استواء الشمس في كبد السماء في مشرق ثقيف في سوقهم يدعوهم وينصحهم ويتفرجون عليه، حتى تركوه وما أجابه واحد ، واحد فقط .. والنبي صلى الله عليه وسلم لحاله يذهب إلى ثقيف الطائف ويقف في وسط السوق ولا واحد يستجيب له . حتى ابنته زينب يعني أشفقت عليه جاءت تبكي من حاله .. سبحان الله نصف يوم في حرارة الشمس واقف ولا واحد يستجيب لك وماشين يسخرون والذي يضحك وينفضوا عنه بعد ما تعبوا وجاءت حرارة الشمس خلاص صارت الناس تتفرج عليه سبحان الله كما تتخيل أنت : إنسان مجنون في الشارع والناس تلتف حوله وهذا يكلم الثاني ويتفرجون عليه ويروحون ويجيء جماعة ثانية يتفرجون ويروحون والنبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى ماذا ؟ إلى لا الله إلا الله، إلى أن يوحدوا الله سبحانه وتعالى ! فكانت ابنته تبكي، ما عنده حتى من يأتيه بكأس من الماء في هذا الموقف وهي تأتيه بكأس من الماء، ابنته ! تخيل : رجل واقف يدعو ما يلحقه إلا امرأة بنت من بناته تأتيه بكأس من الماء، هذه الوحيدة المشفقة عليه في العالم، ويتحمل هذا الألم كله وألم هذه الدعوة ؟!
هذه المواقف أثرت في الصحابة وكانت لهم درسا شديدا جدا ، فلأجل هذا هانت عليهم أنفسهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم لحاله كان يتحمل هذا الشيء . فأتته وهي كاشفة عن نحرها فقال: “يا بٌنية، خمري عليك نحركِ” ما كان نزل حجاب ولا كان نزل شيء يتعلق بهذا الأمر ومع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ينتبه إلى هذه القضية التي تتعلق بنخوة الإنسان ، مالها علاقة حتى بالتشريع نزل أم ما نزل ولكن قال: “يا بٌنية، خمري عليك نحركِ فإن الله لا يخذل أباكِ” أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
فمثل هذه المواقف كلها والحياة العملية معها وتصورها هي التي تبعث في قلب الإنسان الخشوع وتبعث في قلبه الصلة الوثيقة بالله سبحانه وتعالى، وأما بغير هذا طالما الإنسان يعيش حياته كلها في الراحة والدعة والسكون والهناء ما عمره يشعر بهذه الأمور أبدا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وصلى الله على محمد وعلى الله وصحبه وسلم.