هل أنت بار بوالديك أم أنك عاق ؟
كثير منا حرم من نعمة بر الوالدين .. وأنا ممن حرمني الله هذه النعمة حرمانا جزئيا فقد مات والدي وأنا دون الخامسة عشر قبل أن أعي حتى حكم بر الوالدين وعظيم منزلته نظرا للبيئة التي نشأت فيها .. وأما والدتي فقد حرمت من كمال برها بعدما علمت هذا الحكم وتغلغل في قلبي ولكن كانت هجرتي إلى الله أعظم قدرا فقدمتها وفارقت والدتي عشرات السنين لا أراها فيها إلا فترات يسيرة عندما كانت تضيء بيتنا بنورها في زيارتها للمدينة .. ولما أراد الله أن أعود لها بعد تلك السنين وأسعد بقربها وأبدأ شيئا من برها لم يمهلني الطواغيت ففوجئت بفراقي لها دون مقدمات فماتت كمدا وحسرة على فراقي بعدما فقدت شهيتها في أن تأكل أو تشرب فذبلت حتى الوفاة رحمها الله وأسكنها فسيح جناته وغفر لي تقصيري في حقها وانتقم لنا ممن فرق بيننا ..
البر يا أحبة منزلة فوق صلة الرحم وفوق الطاعة .. هي فقط دون العبادة !!
وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا ..
ليس البر أن تحسن لوالديك طالما كانا لك محسنين فهذا ليس من البر في شيء فقد قال صلى الله عليه وسلم : ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل الذي إذا قُطعت رحمه وصلها .
والدك حبيب .. لطيف معك ..لا يؤذيك بشيء ولايحملك شيئا ولايسيء إليك بل يضاحكك ويمازحكك ويظهر لك الود والحب فهل تظن أنك إن بادلته ذلك أنت بار ؟؟ أنت واهم !
ليس البر أن تطيع والديك طالما أمراك بما أنت مقتنع به وتنشط وتهم لتنفيذه فهذا ليس من الطاعة في شيء فالطاعة المأمور بها في المنشط والمكره وبإيثار الوالد على النفس فذلك من أساسات بيعة الإسلام ..وهذا منسحب في كل الطاعات كطاعة الزوج وطاعة القائد وهلم جرا ..
إن طاعتك لقائدك تظهر عندما يأمرك بما لاتراه صوابا وتكرهه نفسك ويشق عليك ..
وإن طاعتك لزوجك أيتها الأخت عندما يأمرك بترك ماتحبين وفعل ماتكرهين
وإن طاعتك أيها الولد عندما يأمرك والدك بعكس ماترغب وبضد ما تقبله نفسك
طالما لم تخرج تلك الأوامر عن طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ..
إما يبلغن عند الكبر أحدهما أو كلاهما :
فلاتقل لهما أف !
ولاتنهرهما !
وقل لهما قولا كريما !
واخفض لهما جناح الذل من الرحمة !
وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا !
شرط قاس .. وطلبات أقسى وأشد
أولا عندك وثانيا الكبر .. يعني المسئولية على رأسك خدمة ونفقة ورعاية وعناية وهما في سن الضجر والمرض والتعب وربما الخرف والزهايمر
ومع ذلك كلمة أف .. لاتحل لك وإياك ورفع الصوت والنهر لهما بل يجب القول الكريم ثم الذل لهما مع الرحمة ثم الدعاء وتذكر حالك وأنت عاجز كلك هم ومسؤولية فما أهملاك وإنما ربياك حتى صرت على ماصرت عليه الآن ..
وهنا لفتة عظيمة يجب التنبه لها : إن فترة كبر الوالدين هي الفترة الذهبية لبرهما فيالسعد من اغتنمها ويالبؤس وشقاء من فرط فيها ..فقد أوشك الركب على الرحيل وأوشكت الشمس على المغيب .. وآن للأقمار أن تأفل ..فأدرك أو فرط فلاينفع بعد ذلك الندم .
{ رغم أنفه، رغم أنفه، رغم أنفه }، قيل: من يا رسول الله؟ قال: { من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كليهما ثم لم يدخل الجنة }
قال الإمام أحمد : بر الوالدين كفارة الكبائر .
وهذا من تمام فقهه رحمه الله وأظن أن ذلك موافقا لفقه حبر الأمة ابن عباس رضي الله عنه عندما ذكر له حال امرأة تعلمت السحر من هاروت وماروت ولم تعمل به شيئا وأتت المدينة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ترغب في التوبة فهاب الصحابة أن يفتوها بأن لها توبة فقال هو رضي الله عنه : لو كان أبواك حيين أو أحدهما لكان يكفيانك .
إياك أن تقيس برك بوالدك وقتما يؤاخيك ويتنزل من منزلته إليك ويقدرك ويقدر ظروفك ..
تريد أن تعرف مقياس برك أو عقوقك فانظره وقت يسبك والدك ويطردك ويسيء إليك ويحرمك مما تحب ويحملك ما تكره .. هنا تعرف هل أنت بار أم عاق ؟
إن كنت عاقا ..فاعلم أنه لن ينجيك من لفح جهنم لاصلاتك ولاصيامك ولاحفظك لكتاب الله بل حتى ولاتوحيدك الذي فقط ينجيك من الخلود في جهنم ..
تأمل :
(ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ الإشراك بالله، وعقوق الوالدين )
(لايدخل الجنة عاق ولامدمن خمر )
بقي أن نختم بذكر بعض صور البر وصور العقوق عند السلف لعلها تضيء الطريق للحائرين :
رأى أبو هريرة رجلا يمشي خلف رجل فقال : من هذا ؟ قال أبي . قال : لا تدعه باسمه ، ولا تجلس قبله ، ولا تمش أمامه .
وقال ابن محيريز: ” من مشى بين يدى أبيه فقد عقه، إلا أن يمشي فيميط له الأذى عن طريقه، ومن دعا أباه باسمه، أو بكنيته فقد عقه، إلا أن يقول: يا أبه .
وعن عروة بن الزبير، قال: «ما بر والديه من أحد النظر إليهما».
وقال فرقد السبخي :” قرأت في بعض الكتب: ما بر ولد مد بصره إلى والديه، وأن النظر إليهما عبادة، ولا ينبغي للولد أن يمشي بين يدي والديه، ولا يتكلم إذا شهدا، ولا يمشي عن يمينهما ولا عن يسارهما، إلا أن يدعوانه فيجيبهما، أو يأمرانه فيطيعهما، ولكن يمشي خلفهما مثل عبد ذليل ”
وعن مجاهد، قال: ” لا ينبغي للولد أن يدفع يد والده عنه إذا ضربه، قال: ومن شد النظر إلى والديه فلم يبرهما، ومن أدخل عليهما حزنا فقد عقهما .
وطلبت أم مسعر بن كدام ليلة من مسعر ماء فقام فجاء بالكوز فصادفها وقد نامت فقام على رجليه بيده الكوز إلى أن أصبحت فسقاها
وعن محمد بن المنكدر قال : بت أغمز رجلي أمي وبات عمي يصلي ليلته فما سرني ليلته بليلتي .
وعن يزيد بن أبي حبيب، قال: «إيجاب الحجة على الوالد عقوق»
وعن الحسن، قال: «إليه منتهى القطيعة، أن يجافي الرجل أباه عند السلطان»
وأخيرا إياك وإظهار العبوس عندهما أو مقاطعة كلامهما أو التأخر في قضاء حاجاتهما والتسويف بها أو تقديم الزوجة عليهما أو أن تفعل أي شيء يكدر خاطرهما مهما كان يسيرا .. وانتبه لنفسك وقد أصبحت يدك على أزرار هاتفك جل وقتك أن للوالدين حقوقا عليك في الواتس والفيس وغيرهما من وسائل التواصل فاجتهد في معرفة طريقة برهما في تلك الوسائل فقدم لهما النصيب الأكبر من كل مايسعد من تتواصل معهم وتجنب معهم كل ما يضايق من تتواصل معهم .
غفر الله لنا ولوالدينا ولوالدي والدينا ولسائر المسلمين ، ورزقنا بر أولادنا وجنبنا الحاجة إليهم والاستغناء عنهم حتى لا نفجع فيهم والحمد لله رب العالمين .