الأخذ بالأسباب هل ينافي التوكل التام (الجهاد وفكاك الأسير)
مسألة الأخذ بالأسباب قضية شائكة وخطيرة ولايمكن مهما اوتي الانسان من بلاغة وقدرة على الاختصار أن يوصل مضمونها للقارئ في مقال كهذا وهي تحتاج إلى كتب لا إلى كتاب ولكني أرجو من الله أن يمكنني من اختصارها في كتاب لما لها من أهمية قصوى وحصول خلط كبير فيها منذ زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا
والأخذ بالأسباب يتداخل تداخلا عجيبا مع القدر ولذا فغموضه فرع عن غموض القدر اللذي استأثر الله سبحانه بعلمه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ( إذا ذكر القدر فأمسكوا) وكذا قال : (لاتزال أمتي بخير مالم يتكلموا في الولدان والقدر)
وتوضيحا لذلك نضرب ثلاثة أمثلة منها مثالان أمرنا فيها بالأخذ بالأسباب وهي من القدر ومثال لترك الأخذ بالأسباب والاستسلام للقدر
فالأول : هو عمدة الدين حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه يوما : (مامنكم من نفس إلا وقد علم منزلها من الجنة والنار ) قالوا : يارسول الله فلم نعمل أفلا نتكل قال : ( لا اعملوا فكل ميسر لما خلق له).
والثاني : عندما أراد عمر الرجوع بالناس عندما علم بطاعون الشام قال له أبو عبيده : أفرارا من قدر الله ؟؟ فقال له عمر : نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله ، أرأيت إن كانت لك إبل فهبطت واديا له عدوتان احداهما خصيبه ، والأخرى جدبه ، أليس إن رعيت الخصبه رعيتها بقدر الله ، وان رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله . وقال له : أرأيت إن رعى الجدبة وترك الخصبة أكنت معجزه (أي تنسبه الى العجز والحمق) قال : نعم . قال : فسر اذا . ثم جاء عبد الرحمن بن عوف فأخبرهم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه )
والمثال الثالث : حديث العزل حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم عندما سئل عنه ” لا عليكم أن لا تفعلوا ماكتب الله خلق نسمة هي كائنة إلى يوم القيامة إلا ستكون وفي بعض الروايات قال : إنما هو القدر لاأريد أن أطيل في هذا الموضع فهو يحتاج إلى كلام كثير وأنا لم أدخل بعد في صلب موضوع المقال و موعدنا الكتاب بإذن الله. والسبب في لغة العرب: الحبل وقد جاء بهذا المعنى في قوله تعالى: “فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع” أي يربط حبلا في الأعلى ويخنق نفسه، ويطلق على كل ما أوصلك إلى غرض ومنه الطريق والعلاقات بين الناس، قال تعالى: “لعلي أبلغ الأسباب أسباب السموات” وقال: “وتقطعت بهم الأسباب” ويطلق السبب عند علماء اﻷصول على معان عدة منها ما يقابل المباشرة، فمن حفر بئرا بعتبر سببا لمن مات فيها بمباشرة السقوط. ومنها العلة الشرعية كالسرقة بشروطها المعتبرة المؤدية للقطع، ومنها العلة بدون شروطها كالنصاب للزكاة قبل أن يحول عليه الحول. ومنها علة العلة كرمي السهم الذي أصاب شخصا فقتله. فالرمي علة للإصابة التي هي علة للقتل و هناك فوارق بين السبب والعلة تبحث في الأصول.
ثم إن الأمة اختلفت في الأسباب: هل هي مؤثرة؟ فقال قوم: هي مؤثرة بذاتها وهم المعتزلة وقابلهم الأشاعرة فقالوا غير مؤثرة والمؤثر هو الله، وقال أهل السنة والجماعة وهم وسط بين الفريقين: مؤثرة ولكن ليس بذاتها وإنما بقدر الله وخلقه لهذا التأثير. وتفصيل ذلك في كتب العقيدة، ونحن جميعا نعلم ونوقن أن النفع والضر بيد الله سبحانه ومع ذلك نسب الله سبحانه ذلك لغيره لما له من تأثير فقال: ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم وقال “فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إﻻ قوم يونس” والفعل في هذه الدنيا حقيقة ينسب إلى الله تعالى لأنه الخالق له فليس يجري في الكون شيء إلا وهو مخلوق لله سبحانه.فذهب أهل السنة والجماعة وإن كان الشر لا ينسب له تأدبا وهذا لفظا فقط كما قال صلى الله عليه وسلم: “الخير كله بيديك والشر ليس إليك” مع قوله سبحانه وتعالى: “قل كل من عند الله” وقوله صلى الله عليه وسلم: “الإيمان بالقدر خيره وشره” ونظرا لما المباشر من تأثير يصح أن ينسب إليه الفعل ولذا نسبت الوفاة لله سبحانه لأنه الفاعل الحقيقي فقال: ” الله يتوفى الأنفس حين موتها” ونسبت لملك الموت لأنه المباشر الأول : “قل يتوفاكم ملك الموت” ونسبت لمعاونيه من ملائكة الرحمة أوالعذاب لأنهم يتناولون الروح منه “توفته رسلنا وهم لا يفرطون” ولأجل وجود التأثير في الأسباب يقدر الله سبحانه عدم وقوعها لما يترتب عليها من ضرر مثلا كما قال تعالى: “ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين لو خرجوا فيكم مازادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة” وأحيانا لا يستفيد الشخص من السبب فيحول الله بينه وبينه كما قال تعالى: “ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون” والفعل الواحد قد تتعدد الأسباب المؤثرة فيه ولكن يكون بعض الأسباب تأثيره أقوى أو مباشرته للفعل ألصق وقد تتساوى أو لا يتضح الفارق بينها ونضرب مثالا لذلك مسألة فقهية فمثلا إذا حفر رجل بئرا و جاء رجل آخر فوصع فيها سكينا فسقط رجل في البئر فمات حكم بالدية مناصفة بين من حفر البئر ومن وضع السكين لاشتراكهما في السبب في وفاة الرجل وتوجد مسائل عدة وتفصيلات عجيبة في هـذا الباب في كتب الفقهاء في مباحث الديات.
وقد يبطل الله تأثير الأسباب كلية لحكمة ارتضاها كمعجزة لنبي أو كرامة لولي أو نحو ذلك ويكون ذلك خارجا عن نواميس الكون لا يقاس عليه ولا يدعى الناس للاتساء به فمثلا خلق الله سبحانه عيسى عليه السلام في بطن مريم البتول التي لم يمسسها بشر فأبطل سبحانه السبب الذي دار عليه التكاثر منذ الخليقة وكذا أبطل الله سبحانه تأثير النار في إبراهيم عليه السلام وهي سبب للإحراق في أصل خلقتها ولكنها أصبحت عليه بردا وسلاما ومن ذلك ما يروى عن شرب خالد بن الوليد السم تحديا وكذا نجاة أبي مسلم الخولاني من النار فأبطل الله تأثير السم و تأثير النار لوليين من أوليائه نصرة لهما على عدوهما وغير ذلك كثير.
ثم اختلف الناس فمنهم من ترك الأسباب في مواضع كثيرة ولم يأخذ بها واعتقد ان ذلك من التوكل على الله والاستسلام لقدره ويغلب هذا على غلاة الزهاد والصوفية ومنهم من تعلق باﻷسباب واعتمد عليها وهم القدرية نفاة القدر والذين يقولون بأن العباد يخلقون أفعالهم، وتوسط أهل السنة والجماعة فأخذوا بالأسباب متوكلين على الله سبحانه وتعالى ومعتقدين بأن اﻷسباب هي من قدر الله ولا تنافي التوكل بل هي مصاحبة له كما روي في حديث الرجل الذي لم يعقل دابته توكلا فهربت منه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اعقلها وتوكل” وكلنا يعرف سبب نزول قوله تعالى: “و تزودوا فإن خير الزاد التقوى” فقد كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون: “نحن المتوكلون” فإذا قدموا المدينة سألوا الناس فأنزل الله تعالى: “وتزودوا…” الآية
وبقيت أمور اختلف فيها أهل العلم: هل الأفضل الأخذ بالأسباب فيها أم الأفضل ترك الأسباب؟
ومن ذلك مثلا التداوي مع إقرار الكل بمشروعيته ولكن الخلاف في الأفضلية وهناك أمور رأى بعض أهل العلم تحريم الأخذ بالأسباب فيها وبعضهم رأى الكراهة وآخرون الإباحة ومن ذلك العزل وخلاصة القول أن الأخذ بالأسباب يتنازعه الأحكام الخمسة التحريم والكراهة والإباحة والاستحباب والوجوب فعلا وتركا بل يتنازعه الكفر والشرك والإيمان والتوحيد فبعض الأسباب فعلها لابد منه للإيمان كالنطق بالشهادتين سبب للدخول في الإسلام فمن لم ينطق بهما لا يحكم له بالإسلام وإن اعتقده والصلاة سبب للنجاة من الكفر والشرك فمن تركها رفقد كفر كما قال صلى الله عليه وسلم: “بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة” ومن أصيب له مريض بالسحر فاستخدم سحرا أشرك فيه بالله أوكفر به لعلاجه فقد أخذ بسبب الأخذ به كفر ولو أخذ ببعض الرقى المشروعة أخذ بسبب يدور بين الاستحباب والإباحة والكراهة حسب تفصيلات عند أهل العلم. إذن ما الضابط في الأخذ بالأسباب حتى يطمئن المسلم على صحة توكله وسلامة منهجه، وهذا السؤال عظيم وهو عمدة المقال والجواب عليه هو الاهتداء بهدي النبي صلى الله عليه وسلم والاستضاءة بنوره والاقتداء بصحبه الكرام في فهمهم لما جاء به وتبقى بعض المسائل التي يخفى فيها الحق بعض الخفاء فهي كغيرها من مسائل الدين الخاضعة للاجتهاد ومحاولة الوصول لأقرب اﻷقوال إلى الصواب.
وهنا نصل إلى جملة من عنوان المقال لنربط بينها وبين ما تقدم وهي قولنا “الجهاد وفكاك الأسير” فنقول أصلا الجهاد سبب من الأسباب وهو من الأسباب الواجبة إما فرض عين أو فرض كفاية على تفصيل ليس هذا محله فجعله الله سبحانه سببا لزوال الشرك ولدفع الظلم فقال تعالى: “وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله” وقال: ” ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض” وقال: “ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره” وقال: “و مالكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا” كما أن الإعداد له ورسم الخطط واستعمال أساليب الحماية كلها أسباب واجبة قال تعالى: “وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم ” وكان النبي صلى الله عليه وسلم يوري في غزواته وحفر الخندق وشاور أصحابه ولبس اللأمة والمغفر وظاهر بين درعين بل إن هناك أشياء محرمة أساسا رخص فيها في الجهاد كالكذب وقال صلى الله عليه وسلم : ” الحرب خدعة”
وكذا رخص في الخيلاء في الحرب وقال لمن تبختر “إن هذه مشية يبغضها الله إﻻ في هذا الموطن” وللفقهاء تفصيل في لبس الحرير والتحلي بالذهب والصبغ بالسواد لأجل الجهاد بل إن أعظم ذلك الحمل على العدو وفيه تعريض النفس للهلاك بالانغماس بين صفوف الأعداء وسيوفهم شراء لنفسه كما قال تعالى: “و من الناس يشري نفسه ابتغاء مرضات الله” ولو فعل ذلك في غير الجهاد لكان متسببا في قتل نفسه وعد منتحرا. بل من الأسباب المشروعة في الجهاد مهادنة الكفار وإبرام الصلح والمعاهدات بينهم حسب قوة المسلمين وضعفهم على تفصيل ليس هذا محله وكلنا نعلم صلح الحديبية وكيف تنازل النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض الأمور لمصلحة راجحة مما أغضب بعض الصحابة ومنهم عمر الذي قال: “لم نعط الدنية في ديننا” أي لم نرض بالدون ولماذا لا نقاتلهم. فهل يقول قائل إن نبي الله صلى الله عليه وسلم لم يتوكل على الله حق توكلِهِ عندما أخذ بهذه الأسباب كلها ويذكرني ذلك بمن قبله من الأنبياء مثلا يعقوب عليه السلام إذ قال لبنيه: “يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة” وقال: “يابني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه” فهل خالف يعقوب التوكل عندما أخذ بهذه الأسباب ومن قبله جده إبراهيم خليل الرحمن عندما كذب ثلاث كذبات وكلها أسباب فلماذا أخذ بها؟ وهل كان ذلك نقصا في توكله على الله سبحانه -حاشاه من ذلك- والكلام في أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بالأسباب في الجهاد يطول ويطول وهو يتوافق في مجمله مع السنن والنواميس الكونية ومحل الاستفاضة في هذا الأمر في مظانه من السير وكتب الجهاد والفقه والتفسير
وأما فكاك الأسير فهو واجب على المسلمين كل حسب قدرته ويبقى في أعناقهم حتى يتم تخليصه بل نص الفقهاء كالقرطبي وغيره أنه يبذل له المال ولو لم يبق في بيت المسلمين درهم ويتحايل له بكل الحيل الممكنة ولا يقال إن ذلك يخالف التوكل بل إن ترك المقدور عليه في ذلك إثم وعجز في الغالب وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يسعى في فكاك الأسرى وأمر بذلك صلى الله عليه وسلم وكان يفادي الأسارى المسلمين ولو بالغنيمة التي هي حق للمجاهدين ويرضيهم وبايع يوم الحديبية الصحابة على الموت لفكاك عثمان رضي الله عنه عندما أبطأ عليه صلى الله عليه وسلم كما في صحيفة علي رضي الله عنه في “فكاك الأسير” وأرسل مرثدا رضي الله عنه ليلا ليفك الأسرى على غفلة من المشركين. فهل ذلك كله إﻻ أخذ بالأسباب؟ وهل كل ذلك مناف لكمال التوكل؟
والأمر كما ذكرنا ليس بالاجتهاد المعزول عن الهدي النبوي فربما يقول قائل لماذا لا يتركهم وسوف يجعل الله لهم مخرجا بالتوكل عليه وكثرة العبادة والدعاء؟ فيقال له : وهل خفي ذلك على رسول الله ﷺ وصحبه الكرام
بل إن التوكل نفسه سبب وكذا العبادة والدعاء كل ذلك من الأسباب، ومن الأسباب بذل ما يمكن بذله دون تفريط في الدين بل يمكن التفريط في بعض القول الذي لا يشرع مثله في غير ذلك قال تعالى : “إﻻ من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان” فيجوز الكفر لفظا فما بالك بما دونه قال تعالى : “إﻻ أن تتقوا منهم تقاة”
ومما اشتهر قصة المجاهد الذي سجنه المشركون فانبهر به قائدهم وطلب منه أن يقبل رأسه ويطلق سراح جميع الأسرى
ولا يخفى ما فعله الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم النبي ابن النبي ابن النبي ابن النبي يوسف عليه السلام حينما طلب من الساقي أن يذكره عند الملك ولكنه نسي ذلك بضع سنين ثم تذكر عندما رأى الملك الرؤيا وكان ذكره للملك سببا في فكاك يوسف من سجنه مع ما علم الله ليوسف من تأويل. فهل نافى فعل يوسف عليه السلام كمال التوكل؟ -حاشا وكلا- وقد وصفه الله تعالى بأنه من عباده المخلصين
وإذا افترض ذلك فيه وحاشاه فكيف بمن هو غير نبي؟ وقد شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوة الصبر على السجن حتى إنه قال:”ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي” فعجبا له ولصبره و توكله على الله لم يرض أن يخرج من السجن ورفض دعوة الملك حتى تثبت براءته .
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا حسن التوكل عليه ويصرف عنا العجز وأن ينصر المجاهدين في كل مكان الذين يجاهدون في سبيله لإعلاء كلمته ويفك أسر المأسورين الذين أسرهم الكافرون والطاغوت لأجل دينهم وأن ينتقم لهم ممن ظلمهم والحمد لله رب العالمين.